علق بنقطة ليصلك "الأمن"

علق بنقطة ليصلك "الأمن"

ضجت -مؤخراً- العديد من الصفحات على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" بأنباء عن صدور قرار من وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك يمنع مزاولة نشاطات البيع والشراء الإلكتروني التي تتم على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي مالم يحصل الشخص الراغب بمزاولة هذا النشاط على سجل تجاري نظامي وأن يقوم بالإعلان عن هويته وعنوانه، كما جرّم القرار استخدام عبارة "علق بنقطة ليصلك السعر" وطلب أن يتم الإعلان عن السعر بشكل صريح وواضح على تلك الصفحات. 

وكالعادة، لم يكن القرار بحد ذاته هو المستفز أو المثير للجدل، وإنما ما كان أكثر استفزازاً للمعلقين هو خروج أحد المسؤولين في الوزارة ليشرح ويوضح –وليته لم يفعل- حيث يمكن لنا أن نجمل ماقاله بالنقاط التالية:

هو ليس قراراً، وإنما تعميم من الوزارة، كما أنه ليس جديداً إذ أنه صدر منذ أكثر من سنة، وما حصل اليوم هو إعادة التذكير به.

عبارة "علق بنقطة ليصلك السعر" هي عبارة مخالفة لمضمون قانون حماية المستهلك والذي يشدد على تجريم عدم الإعلان عن الأسعار.

إن هذه العبارة بمثابة الفخ الذي يقود الشاري إلى التواصل مع البائع بشكل منفرد ويوصله لأن يكون ضحية عملية غش ونصب وابتزاز لا تستطيع معها الوزارة شيئاً لعدم وجود عنوان أو اسم صريح للبائع.

لم ينس المسؤول أن يذكرنا بأرقام المواد من قانون العقوبات التي تجرم هذا الفعل، وبأن الجهة المخولة ملاحقة هذه المخالفات هي فرع مكافحة جرائم المعلوماتية.

بالعودة إلى القرار –التعميم-، فإننا نعود لنكرر الكلام الذي لم يعد خافياً على أحد، سواء من المختصين بالعمل في مجال تقانات المعلومات أو المهتمين بالاستثمار في هذا المجال من جهة، أو المتابعين والمراقبين من جهة أخرى، أن هنالك فجوة مافتئت تزداد اتساعاً، وهوّة مابرحت تضطرد عمقاً بين من يمسكون بزمام القرار ويتولون وضع الخطط والاستراتيجيات اللازمة لمواكبة العصر الرقمي بكافة جوانبه (وعلى رأسها الجانب الاقتصادي والاستثماري)، وبين مايحتاجه هذا العصر -متعثر الولادة- في بلدنا، ولعل أهم ملامح هذه الفجوة والهوة تتبدى من خلال غياب المصارحة والمكاشفة من قبل صانعي القرار حول الدوافع الحقيقية وراء قراراتهم، وانعدام القراءة الاستشرافية للواقع والمستقبل، إضافة إلى الجهل بمفردات لغة هذا العصر الرقمي والتخاطب معه بمفردات ولغة جامدة قاصرة لا تصلح له، مما ينذر بإجهاض أي أمل باللحاق بركب نحن متأخرون عنه أصلاً.

انطلاقاً من كل ماسبق، نجد من الضروري لنا أن نقدم قراءتنا ونعرض مقاربتنا، علها تصل إلى أسماع من يخطط ويقرر، ولعرض هذه المقاربة لابد من الإجابة عن الأسئلة المشروعة التالية:

من هم المستفيدون من هذا النشاط التجاري؟

من غير الممكن فهم أبعاد القرار، مالم نعلم من يستهدف. فإذا نظرنا إلى هذا النمط من النشاط وإلى طيف ممارسيه، يمكن لنا أن نلمح أن يمارس من قبل مجموعتين من الناشطين، المجموعة الأولى هي مجموعة منظمة لا يقتصر وجودها على الفضاء الافتراضي وإنما هي موجودة على أرض الواقع، ومن أمثلتها أصحاب المكاتب العقارية ومكاتب بيع وتأجير السيارات وبعض محلات الأزياء، والمفروشات والأدوات المنزلية (أو حتى الوكالات) أو غيرها من أنواع السلع والتي تستثمر هذا الفضاء الافتراضي كمنصة للإعلان عن منتجاتها أو نشاطها وللوصول إلى طيف أوسع من الناس بدلاً من الاقتصار على المتسوقين الفعليين الذي يرتادون السوق ويتجولون في محلاته (وهؤلاء عموماً لا يستهدفهم هذا القرار إلا لناحية عدم الإعلان عن السعر لأنهم غالباً مايملكون متاجر حقيقية مرخصة وبسجلات تجارية ويمارسون نشاطهم بأسماء معروفة ومعلنة، أما المجموعة الثانية فهي مجموعة عشوائية غير منظمة من الأشخاص الذين يحاولون أن يفتحوا كوة في جدار حياتهم الأصم، بحثاً عن فرصة عمل تدر عليهم دخلاً ما يساعدهم على مواجهة تكاليف المعيشة الباهظة، فكان الحل باللجوء إلى هذا الخيار الذي يعفيهم من التكاليف الكبيرة للتراخيص وشراء (أو أجار) محلات وإكسائها وتشغيلها وفواتيرها، كما أنه لا يتطلب التزامات زمانية ومكانيةـ إذ يكفي أن تكون ناشطاً في تأمين المادة التي ترغب بالمتاجرة بها سواء كانت جديدة أو مستعملة أو حتى كانت من إنتاجك (كما بدأ يلوح من خلال انضمام بعض المزارعين وربات البيوت وأصحاب بعض الحرف اليدوية)، وأفراد هذه الفئة لا يجنون في الغالب أرباحاً طائلة من هذا النشاط ويرتضون هذا الربح القليل بالنظر إلى أنهم يتعاملون مع هذا النشاط على أنه داعم أو مساند (وهؤلاء سيؤثر عليهم هذا القرار كثيراً لأن حجم ما يجنونه لا يتناسب مع تكاليف التراخيص والضرائب والسجل التجاري). 

وبإمكاننا أن نضيف إلى أن الدولة أيضاً يمكن أن نضمها إلى قائمة المستفيدين وذلك نتيجة تقليل استنزاف مواردها من شوارع ومواصلات وكهربا وبنية تحتية، هذا عدا عن تحللها من عبء مطالبة ممارسي هذا النشاط للدولة بتأمين الحياة الكريمة والدخل المتناسب مع جنون المعيشة.

ماهو المعلن؟ وماهو المضمر في هذا القرار؟

بالنظر إلى ما أورده المسؤول (سابق الذكر)، فإن المعلن هو الرغبة في حماية المستهلك من عمليات النصب والاحتيال والغش التي تتم عبر هذه المنصات، ولكن الحقيقة أن هذه التبريرات لم ترق إلى مستوى الإقناع، ومن الممكن لنا أن نجزم أن المضمر الحقيقي هو أمران، الأول هو "عقل الجباية" المتحكم حالياً بنمطية التفكير لدى العديد من مسؤولينا، فهذا نشاط ذو عائد مادي وبالتالي لابد من ترخيص تدفع رسومه ومن ضرائب تجبى عن مبيعاته وأرباحه، كما أنه بحد ذاته نشاط إعلاني لابد له من دفع رسومه (وهذا أمر محق)، إلا أنه يغيب أن أذهانهم على الدوام أن الرسوم والضرائب تفرض عادة من الحكومة لقاء تقديم الخدمات والتسهيلات (وهذا الأمر غير محقق باستثناء أن القائمين بهذا النشاط يستخدمون خدمة الإنترنت الشخصية والتي يدفعون رسومها بالمقابل)، أما الأمر الثاني الدافع لهذا القرار هو تذمر أصحاب نشاطات البيع والشراء المماثلة في الواقع الحقيقي من تضرر أعمالهم بوجود هذا البديل الذي غالباً مايكون أرخص (بالنظر لتدني كلفة ممارسته).

ما الغاية من استخدام عبارة "علق بنقطة"؟  

أورد مسؤول حماية المستهلك أن استخدام عبارة "علق بنقطة ليصلك السعر" يؤدي إلى استدراج الزبائن إلى مكان غير ظاهر أو مرئي (المسنجر) وهناك تجري عملية المساومة والنصب التي يقع المستهلك ضحيتها (وهذا أمر وارد حقيقة وإن كان قليل الاحتمال)، إلا أنه تناسى أن نفس الأمر غالباً مايتم في السوق الحقيقية ومع الأسعار المعلنة. 

في الحقيقة إن استخدام عبارة "علق بنقطة" غالباً مايستخدم لهدفين اثنين، الهدف الأول عائد إلى الخوارزميات المتبعة من قبل موقع فيسبوك في إظهار ونشر الإعلان والتي يرتبط فيها معدل انتشار الإعلان بحجم وتواتر عمليات التفاعل معه، وبالتالي تختفي الإعلانات التي تكون المشاركة فيها والتعليق عليها بسرعة كبيرة ولا تصل إلى عدد كبير من الزبائن، لذا فإن طلب التعليق بنقطة هدفه دفع الزوار إلى أن يكونوا بمثابة عنصر ترويج إضافي، أما الهدف الثاني هو حصر تعامل المعلن مع الأشخاص الجادين حقيقة والذي أظهروا اهتماماً ما بالإعلان، وإلا لوجد المعلن نفسه مضطراً للدخول في مئات أو آلاف عمليات التفاوض مع أشخاص لمجرد كونهم عابرين وشاهدوا الإعلان.

ماذا عن الأمن والجريمة؟

بعيداً عن العنوان الفكه لهذا المقال (علق بنقطة ليصلك الأمن)، وطالما أن تصريح المسؤول أشار إلى موضوع البعد الجرمي في الأمر، وإلى فرع مكافحة الجرائم المعلوماتية، لابد لنا أن نتوقف قليلاً عند هذه النقطة، لنقر بأن احتمال ارتكاب الجريمة أو المخالفة عبر هذا الفضاء الإلكتروني هو من الأخطار والتداعيات الحقيقة والتي تشكل في عالمنا اليوم تهديداً لا ينكر ولابد من تحرك حقيقي بصدده (وهذا الأمر ينطبق على كل أنواع النشاطات وليس فقط نشاط البيع والشراء) ولا يوجد دولة في العالم إلا ووضعت يدها على هذا القطاع وشكلت منظومات أمنية وسنت قوانينها الخاصة بمكافحة الجريمة الإلكترونية، إلا أن المشكلة تكمن في أسلوب المقاربة الأمنية، إذ أن من الخفة أن نظن أننا بإجبار ممارس النشاط أن يعلن عن هويته أو أن يقدم تقاريراً للجهات الأمنية عن نشاطه فإننا نسير خطوة باتجاه التقليل من هذا النوع من الجريمة، ولابد لفرع مكافحة الجريمة المعلوماتية من امتلاك أدوات التقصي والتتبع والرصد والحلول التقنية والاستخبارية الحقيقية (والمتوفرة أيضاً).

المنع والتضييق والتجريم أم تقديم البدائل الحقيقية؟

لا تغير حكوماتنا عادتها في التعامل مع أي نشاط تراه غير مرغوب أو ترغب بتطويقه وتقليل انتشاره، وتلجأ فوراً إلى حلها السحري السهل المتمثل في المنع والتضييق وإغلاق المنافذ والتجريم (سواء كان النشاط تجارياً –كما في حالتنا هذه- أم سياسياً أو إعلامياً أم فكرياً)، لكن الحقيقة أن هناك بدائل أفضل وقد انتشرت في أغلب بلدان العالم وترسخت ثقافتها لديهم، فالبديل يمكن أن يكون من خلال التسريع في تشريعات الدفع الإلكتروني وتنظيم هذا القطاع، وعندها سيكون المجال مفتوحاً وواسعاً أمام المواقع الإلكترونية المتخصصة في البيع والشراء (وليس منصات التواصل الإجتماعي) لكي تقدم هذا النمط من الخدمات وسيتجه الناس إلى استخدامها كبديل أكثر موثوقية وضماناً، إضافة لكونه أكثر اكتمالاً ويتيح إنجاز عملية تجارية كاملة وصولاً إلى الدفع وتوصيل المشتريات، وحينها سيكون أمر تنظيم هذا القطاع ومراقبته أكثر سهولة ويسراً.

إذا كان لابد لنا من خلاصة فإننا نقول بأن الفضاء الإلكتروني أصبح أمراً واقعاً، كما أن مفرداته ومفرزاته (مثل التجارة الإلكترونية، الدفع الإلكتروني، الخدمات الإلكترونية، العمل الإلكتروني، التعليم الإلكتروني ..... إلخ) أصبحت (إضافة لكونها أمراً واقعاً) تشكل فرصة حقيقية أمام الدول والشعوب لتوفير مصادر دخل وتقليل استهلاك الموارد وتسريع إنجاز الأعمال .... فلنفتش عن لغة مناسبة للتخاطب مع هذا الفضاء ولنبن الأدوات الفاعلة التي تتيح لنا استثماره الحقيقي. 

شارك برأيك .. لتكتمل الصورة


استطلاعات الرأي

يجب ان تختار خيار قبل ارسال التصويت
هل تعتقد أن الوقت قد حان لبدء تطبيق الدفع الإلكتروني في سوريا؟
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني
النتائج
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني