"الاستيعاب الجامعي " من سيدوس على الفرامل؟

"الاستيعاب الجامعي " من سيدوس على الفرامل؟

جهاد عيسى

كالعادة، أقيمت بالأمس القريب الاحتفالات السنوية بصدور نتائج "أم المعارك" امتحانات الثانوية العامة، وكالعادة أيضاً، نحن على موعد في القريب العاجل مع احتفال آخر يتمثل باجتماع اللجنة العليا للاستيعاب الجامعي لقراءة هذه النتائج وتحليلاتها الإحصائية من حيث الأعداد وتوزع الدرجات من جهة أولى، ودراسة الطاقة الاستعابية للجامعات والكليات والمعاهد الحكومية من جهة ثانية، وتحليل احتياجات البلد من الكفاءات وحملة الشهادات الجامعية وفقاً لخططه التنموية ومعدلات نموه الاقتصادي المتوقعة من جهة ثالثة، وبناء على كل ماسبق، يتم تتخذ قرارتها بخصوص الطلبة الناجحين واستيعابهم ضمن جامعات القطر وتصدر الحدود الدنيا لمفاضلات القبول الجامعي بأشكالها المختلفة.
وعلى اعتبار أن اللجنة لمّا تجتمع بعد، فليس علينا سوى العودة إلى الخبر الصحفي الذي غطى اجتماعها في العام الماضي (أو الذي قبله، أو الذي قبله .... أو الذي قبله) لنزف لطلبتنا البشرى بأن اللجنة قررت (ستقرر) استيعاب كافة الطلاب الناجحين في الثانوية العامة لهذا العام، وأنها ناقشت (ستناقش) أهمية (الزج) بهذه الطاقات الشابة في مسيرة التنمية والنهوض الاقتصادي وخطط إعادة الإعمار، وأنها اتخذت (ستتخذ) كافة الإجراءات اللازمة لتحقيق متطلبات جامعاتنا من حيث البنى التحتية والكوادر البشرية لتتمكن من تحقيق هذا الاستيعاب.

من حيث المبدأ، فإن اعتماد سياسة الاستيعاب الجامعي منذ مايقارب النصف قرن من الزمن، كان واحدة من أهم الاستراتيجيات التي انعكست إيجابياتها على البلد لسنوات طويلة (وخاصة أنها ترافقت مع مجانية أو شبه مجانية هذا التعليم)، بدءاً من إيجابية تحقيق مبدأ ديمقراطية التعليم التي أتاحت للشرائح الأكثر فقراً أن تتابع تعليمها الجامعي وتنال أعلى الشهادات العلمية وفقاً لمعيار من أشد المعايير عدالة وهو المفاضلة بحسب مجموع الدرجات في الثانوية العامة، وانتهاء برفد سوق العمل بأشخاص يحملون كفاءات ومؤهلات كانت بأمس الحاجة إليها لتحقيق خطط النمو في مختلف المجالات والقطاعات.
ومن حيث الشكل فإن اللجنة العليا للاستيعاب الجامعي هي لجنة متكاملة تضم الطيف الأوسع من المعنيين بتحقيق التكامل والترابط بين مخرجات النظام التعليمي ومدخلات عملية التنمية، وتعمل وفق منهجية علمية ومدروسة، فعملها لايقتصر على اجتماعها بعد صدور نتائج الثانوية العامة، وإنما يمتد عملها على العام كله، لناحية إجراء الدراسات التحليلية والإحصائية لأعداد حملة الشهادات العلمية من كل اختصاص وتوزعهم على كامل خريطة التنمية في البلد ومراسلة المؤسسات والهيئات والوزارات لمعرفة احتياجاتها المستقبلية من أعداد الخريجين ونوعية المؤهلات لتنفيذ خططها المزمعة، إضافة لمراسلة الجامعات والمعاهد المختلفة لمعرفة قدراتها الاستيعابية من الطلبة للعام القادم، وبناء على كل ماتقدم تحدد حجم حاجتها من الطلاب والاختصاصات وتحدد نسب القبول.

هذا من حيث المبدأ والشكل، ولكن لنعد قليلاً لمحاولة القراءة من حيث واقع الأمر. ففي الحقيقة، لكي نتمكن من إجراء تقييم موضوعي لتجربة اعتماد سياسة الاستيعاب الجامعي، لابد من تقسيم مسيرتنا منذ اعتماد هذه السياسة إلى المراحل التالية:

المرحلة الأولى: مرحلة الصعود والنمو
وهذه المرحلة امتدت منذ بداية عقد السبعينات من القرن الماضي وحتى أواخر الثمانينات، كان البلد في تلك المرحلة في منحى صعود كبير في مختلف المجالات والقطاعات، فجرى التوسع في خطط التنمية والتمدد بحيث تشمل هذه التنمية كافة أنحاء القطر (وصولاً إلى الأرياف البعيدة)، فانتشرت المعامل والمصانع والمنشآت الحكومية والطرق والمدارس والمشافي والمرافق الصحية وكل أنواع الخدمات، إضافة إلى مشاريع استثمار الطاقة والثروات الباطنية والتخطيط الزراعي.
كانت الحاجة في تلك الفترة إلى الكفاءات العلمية في أعلى مستوياتها، وأعداد الخريجين أقل بكثير من حاجة البلد، لدرجة أن الاستيعاب الجامعي في تلك الفترة ترافق "بالاستيعاب الوظيفي"، فكل الخريجين على اختلاف اختصاصاتهم سيتم استيعابهم أيضاً للعمل في المؤسسات والمنشآت الحكومية (لدرجة أن الكثير من التخصصات كانت الدراسة فيها مشروطة بالتزام الخريج العمل في مؤسسات الدولة). 

المرحلة الثانية: مرحلة التخبط والعشوائية
وهذه المرحلة امتدت منذ بداية عقد التسعينات في القرن الماضي وحتى منتصف العقد الأول في القرن الحالي، في هذه المرحلة بدأت تظهر شيئاً فشيئاً سلبيات اعتماد هذه السياسة، فمع النمو السكاني المتزايد وتطبيق إلزامية ومجانية التعليم في المراحل ماقبل الجامعية، تزايدت أعداد الطلاب الناجحين في الثانوية العامة في كل عام، بالمقابل، بدأت الجامعات تعاني من تكدس الطلاب على مقاعدها بأعداد كبيرة، المؤسسات الحكومية تعاني من البطالة المقنعة بتزايد أعداد العمالة بشكل يفوق حاجتها أضعافاً مضاعفة، وعجز كبير في خطط التنمية لأسباب كثيرة (كان أقلها الحصار السياسي والاقتصادي للبلد).
لم تحصل أي معالجة حقيقية في تلك المرحلة، فبقي القرار باستيعاب الجميع، وترافق مع استحداث اختصاصات وافتتاح كليات ومعاهد ذات مخرجات خلبية لا يحتاجها البلد أصلاً (أو يحتاح لأعداد قليلة من خريجيها)، ومع سطوة ثقافة العمل في القطاع الحكومي مجتمعياً، بدأت الحكومة تتنصل شيئاً فشيئاً من سياسة "الاستيعاب الوظيفي"، فترك قطاع التعليم العالي والتقاني لمصيره في المعاناة من الأعداد الهائلة من الطلاب في الجامعات وترك الخريج لمصيره في الانضمام إلى سوق "العطالة عن العمل" أو سوق "الواقفين على أبواب السفارات".

المرحلة الثالثة: مرحلة الركود والاستعصاء 
وهي المرحلة التي نعيشها الآن، أعداد هائلة من الناجحين في الثانوية العامة أكبر من أن تستوعبهم جامعاتنا بما فيها الخاصة (حوالي 120000 طالب هذا العام)، أعداد هائلة من الخريجين الجامعيين أكبر من أن تستوعبهم سوق العمل لدينا بما فيها القطاع الخاص (وخاصة خريجي التخصصات الجامعية التقليدية)، تكدس هائل في أعداد الموظفين في الوظيفة الحكومية، بطالة حقيقية وبطالة مقنعة، إغلاق قسم كبير من أسواق العمل في الدول المجاورة أمام السوريين، تراجع كبير في سوية التعليم الجامعي بنتيجة عدم التواؤم بين الطاقة الاستعابية والاستيعاب الفعلي (وغيره من الأسباب التي لامجال لذكرها الآن)، ومع ذلك لايزال القرار السنوي المعاند باستيعاب كافة الناجحين في الثانوية العامة ضمن الجامعات، ولاتزال المعالجات هي ذاتها، افتتاح اختصاصات جامعية خلبية وقبول أعداد كبيرة فيها، الإبقاء على اختصاصات جامعية لدينا خريجين منها يكفون عشر بلدان إضافة لبلدنا، ولا اشتغال حقيقي على فتح خيارات سوق العمل رديفة تحمل بعضاً من العبء عن القطاع الحكومي، والنتيجة شبه تعليم جامعي وخريجون جامعيون بمئات الآلاف على قارعة الطرقات بلا أمل أو مستقبل.

إذاً نحن أمام استعصاء متعدد الأوجه، استعصاء في الثقافة المجتمعية لايزال يصر على التمسك بالعمل في القطاع الحكومي وعلى العبور إليه من بوابة التعليم الجامعي، استعصاء في قطاع التعليم مابعد الثانوي، لايزال يصر على التمسك (ولو شكلياً) بسلم التخصصات الجامعية ذاته، ومخرجات التعليم الجامعية ذاتها، وأدوات مواجهة الأعداد الكبيرة من الطلبة ذاتها، واستعصاء على المستوى الحكومي، لايزال يتمسك بتطبيق شعار الاستيعاب الجامعي بنفس الطريقة والأسلوب، دون التفكير بالحاجات الفعلية كماً ونوعاً من الخريجين، علماً أن المفهوم الحقيقي للاستيعاب الجامعي غير ذلك تماماً، فالمفهوم الفعلي الذي أنشئت من أجله لجنة للاستيعاب الجامعي هو جعل سياسات البلد التعليمية تتماشى مع سياسات البلد الاقتصادية واحتياجاته التنموية، بحيث تأتي مخرجات العملية التعليمية (كماً ونوعاً) موائمة تماماً للخطط والسياسات.

ماهو الحل إذاً؟ هل الحل بإلغاء سياسة الاستيعاب الجامعي؟ 
في الحقيقة الجواب هنا يتأرجح بالنسبة لي بين الـ "نعم" و الـ "لا"، بداية أقول: "لا"، لأن التعليم الجامعي حق للجميع، وهو من المكاسب القليلة المتبقية لبسطاء الناس في الحصول على فرصتهم، إضافة إلى أنني أخشى أسلوب المعالجات المحقة التي يراد بها (أو تقود إلى ) غايات غير محقة، فقد قامت وزارة التعليم العالي في السنوات الأخيرة بكثير من المعالجات المحقة لاستعصاءات يعاني منها التعليم العالي والتقاني، لكنها صبت في الحقيقة في خدمة قطاع التعليم الخاص من جامعات خاصة أو من أشكال التعليم الحكومي المدفوعة من تعليم مفتوح وموازي وافتراضي. لكني بالمقابل أقول: "نعم"، فالاستمرار بهكذا سياسة بدون تقييمها مرحلياً أو الإيمان بضرورة تعديلها بعد أن تغيرت الكثير من الظروف والدوافع، وبدون تحقيق عمل موازٍ لها في سياسات البلد الاقتصادية والتعليمية يجعل العمليتين تسيران معاً نحو غاية واحدة ماهو إلا إمعان في طرق الرأس بالجدار الأصم.

لايمكن تشبيه واقعنا في ظل الاستمرار بالسياسات الحالية في الاستيعاب الجامعي الخلبي والتنمية الاقتصادية الوهمية والانفصام الكبير فيما بينهما، إلا بحافلة في طريق هبوط منحدر، ركابها يمثلون مستقبل البلد، (أبناؤه، حضارته، اقتصاده، مؤسساته، .... )، ويقودنا عدد كبير من السائقين غير المتناغمين الذين يتصرفون كل على هواه، فذا يتلاعب بالمقود، وذاك يتلاعب بمبدل السرعة، وثالث على المرايا ورابع يغازل دواسة البنزين وخامس ممسك بالمذياع وسادس يقبض على الزمور ، أما الفرامل والمكابح فمتروكة على هواها .. فمن ياترى سيدوس على الفرامل؟
 

شارك برأيك .. لتكتمل الصورة


استطلاعات الرأي

يجب ان تختار خيار قبل ارسال التصويت
هل تعتقد أن الوقت قد حان لبدء تطبيق الدفع الإلكتروني في سوريا؟
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني
النتائج
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني