اقتصاد الظّل .. شبحٌ يهدد بالتهام الاقتصاد الحكومي

اقتصاد الظّل .. شبحٌ يهدد بالتهام الاقتصاد الحكومي

دمشق - محمد الحلبي

في حين تسعى الحكومة لإرضاء التجار والصناعيين، وتقديم التسهيلات والدعم اللازم لعملهم، وتكتفي منهم بالوعود والإعلان عن المبادرات التي لا تتعدى أبواب قاعات اجتماعاتهم، نشأ على الطرف الآخر نوع جديد من الاقتصاد أطلق عليه الاقتصاديون اسم "اقتصاد الظل"، وإن كان هذا النوع من الاقتصاد موجود في معظم دول العالم إلّا أنه ينتشر في الدول النامية بنسبٍ مرتفعة، حيث يؤثر اقتصاد الظل على اقتصاد الدول بشكلٍ مباشر لأسبابٍ عديدة سنأتي على ذكرها لاحقاً.. وبكل الأحوال لم ينشأ هذا النوع من الاقتصاد من عدم.. بل له أسباب ومسببات ونتائج كارثية على الدخل القومي، ورغم أن الدول تسعى إلى الحد من انتشاره، إلا أن سياسات الحكومات تسهم في كثيرٍ من الأحوال بتوسع قاعدة اقتصاد الظل لتخرج أسواقه عن السيطرة ويصعب إعادة تقويمها.

اقتصاد الظل
اقتصاد الظل هو الاقتصاد الذي يعيش في الظلام بالنسبة للحكومات، ويتهرب من رقابة الدولة عليه، ويعيش ويستغل كل الهبات والمساعدات التي تقدمها الحكومة للاقتصاد النظامي أو الرسمي -إن صحت التسمية- دون أن يقدم شيئاً مقابل هذا الدعم، فهو اقتصاد لا يخضع لقوانين، ويتنصل من المسؤوليات تجاه الدولة، وبشكلٍ مبسط أكثر نجد أن هذا الاقتصاد موجود حولنا في كلِ مكان، بممارساتٍ سواء كانت شرعية كورشات الخياطة التي تعمل في الخفاء أو ورشات إصلاح السيارات المنتشرة على الطرقات، والبسطات بمختلف أنواعها وأشكالها... إلخ، أو غير شرعية كتجارة المخدرات، والسوق السوداء لتصريف العملات، والتهريب... وبالمجمل نجد أن هذا الاقتصاد هو عبارة عن مجموعة من الممارسات التي تنشأ على هامش الاقتصاد الرسمي، ويُمارَس من قبل أفراد أو جماعات الهدف منه هو الربح السهل والتهرب من الضرائب بعيداً عن الرقابة الحكومية..
وحسب اقتصاديين سوريين أن معدلات اقتصاد الظل في سورية ارتفعت في السنوات العشر الأخيرة ليصل إلى نسبة 70% من اقتصاد السوق السورية، ويرجع السبب لعدة عوامل نذكر منها:
أولاً_ العامل الحكومي: حيث أن الحكومة تُسهم بشكلٍ مباشر في تنامي هذا الاقتصاد، وذلك بسبب ضعف إدارة الموارد المتوافرة لديها، وتركيزها على توجيه الدعم الدائم لأصحاب رؤوس الأموال الكبيرة، وتقديم التسهيلات لهم، متناسيةً المشاريع الصغيرة التي غالباً ما تعيش على فتات المشاريع الكبيرة للتجار والصناعيين، فتعمل على تقليص نفقاتها واستخدام الخدمات التي تقدمها الحكومة للمواطنين العاديين لتخفيض تكاليف الإنتاج، ومن ثم طرح منتجاتهم في الأسواق الشعبية، والتي تلقى فيها رواجاً لانخفاض أسعارها بشكلٍ كبير مع مثيلاتها من المنتجات والسلع حتى وأن كان ذلك على حساب الجودة..
(س) تهدم معمل الخياطة الذي كان يملكه في منطقة القدم، نزح إلى أحد الأحياء العشوائية واشترى آلتا خياطة، وراح يعمل بدايةً هو وزوجته.. ورويداً رويداً عادت ورشته إلى شبه ما كانت عليه.. هو يستخدم الكهرباء المنزلية لصناعته.. ولا يدفع ضرائب للحكومة، ولم يسجل عماله بالتأمينات الاجتماعية، في نظر (س) أن الدولة لم تقم بمساعدته عندما تهدمت ورشة الخياطة الخاصة به، وهو يريد أن يعين عائلته ويسد رمقها، فاستخدم عقله وذكاءه ومهارته -حسب اعتقاده- لانتشال نفسه من الأزمة، وهو اليوم يعمل لديه أكثر من عشرة عمال، ويطرح منتجاته في الأسواق الشعبية بأسعارٍ منافسة تصل إلى أقل من 50% من أسعار المنتجات النظامية الأخرى..
ثانياً – العامل الإداري: فتعقيدات التراخيص الحكومية للفعاليات الاقتصادية، وعدم وجود تعاون حقيقي وفعّال للمشاريع الإنتاجية الصغيرة، كل ذلك يؤدي إلى التهرب الضريبي الذي وصل إلى أرقامٍ خيالية في التكليفات المالية الأخيرة، ما دفع بالعديد من الفعّاليات إلى إغلاق منشآتهم في الأماكن المكشوفة بالنسبة للدولة، والبحث عن بدائلٍ لها في الأماكن المخفية لمزاولة نشاطهم التجاري..
(ع) من الناس تاجر حلويات شرقية، أغلق محله في أحد المناطق الراقية بدمشق لارتفاع ضريبة الدخل التي فرضت عليه، واعتمد على معمله الكائن في إحدى العشوائيات، وتحول إلى البيع بالجملة وراح يستخدم الكهرباء المنزلية أيضاً في صناعته، ويشتري المحروقات بأسعارٍ مخفضة من الناس لإتمام عملية الإنتاج في معمله بأقل التكاليف بعيداً عن ضريبة الدخل.
ثالثاً – العامل الاقتصادي: ويعتبر من أهم العوامل الناتجة عن تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، وانشغال الحكومة بسوق المضاربات المصرفية التي تعلن حربها مع العملة الوطنية، بدلاً من البحث عن مخارجٍ أخرى توقف التضخم الذي أرهق اقتصاد الدولة في غياب شبه تام للمنتَج المحلي الذي يؤثر بشكلٍ كبير في قيمة العملة.. أما نتائج هذا العامل فهي كارثية.. منها تسريح العمال وزيادة معدلات البطالة، واتساع رقعة السوق الموازي أو اقتصاد الظل الذي يستقطب هذه الشريحة من العمال بنسبٍ كبيرة..
كيف نُظهر اقتصاد الظل إلى النور
استمرار اقتصاد الظل سيؤدي حتماً إلى انخفاض معدلات نمو الدخل القومي وسوء توزيعه أيضاً، ولذلك يتوجب على الحكومة الجديدة القادمة أن تضع اقتصاد الظل في أولى مهامها إذا ما أرادت القضاء على التضخم، وتعزيز القيمة الشرائية لليرة السورية، من خلال تحسين مستويات الدخل، وسن قوانين مالية عادلة، ينضوي تحت لوائها جميع الفعاليات لصغار المنتجين دون تمييز، وإطلاق مبادرات حقيقية لدعم المشاريع الإنتاجية الصغيرة، دون إرهاقها بنفقات قد تقضي عليها قبل ولادتها، ويكون ذلك طبعاً عن طريق تبسيط ومرونة تسجيل الفعّاليات التي تعمل تحت مظلة اقتصاد الظل لإظهاره إلى العلن دون ضرائب أو رسوم أو التزامات مالية و إدارية، كمنح تراخيص إدارية طويلة الأمد كعامل مساعد لهذا الاقتصاد حتى يقف على قدميه ليصبح اقتصادياً رسمياً منتجاً يدعم خزينة الدولة بمدخولٍ لا يُستهان به..
نقطة نظام
قد يُشكل اقتصاد الظل جرماً في نظر الحكومة والقانون، لكنه في الواقع يُعتبر عصب الحياة لكثيرٍ من الأسر السورية بعد العشر العجاف التي مرّت على البلاد، وبدلاً من أن تعمل الحكومة على محاربته والحد من انتشاره، من الأفضل لها أن تجعل منه مولوداً شرعياً يعيش بين أحضانها، والعمل على دمجه مع عجلة الاقتصاد الوطنية التي تعود بالفائدة على المواطن واقتصاد البلاد على حدٍ سواء، فإيجابيات هذا الإجراء أكثر بكثير من سلبياته، فهو يحد من انتشار البطالة ويقلل من عدد العاطلين عن العمل ويدعم خزينة الدولة بكتلة نقدية ضخمة إذا ما علمنا أن اقتصاد الظل بات يشكل 70% من حجم الاقتصاد السوري كما أسلفنا..

شارك برأيك .. لتكتمل الصورة


استطلاعات الرأي

يجب ان تختار خيار قبل ارسال التصويت
هل تعتقد أن الوقت قد حان لبدء تطبيق الدفع الإلكتروني في سوريا؟
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني
النتائج
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني

الأكثر مشاهدة هذا الشهر