من مذكرات مدرِّسة (5)

من مذكرات مدرِّسة (5)

ماري عربش
كنت أسمع طرقات قلبي العنيفة وأنا أهبط الدرج من الطابق الثالث وفاطمة فوق ذراعيّ غائبة عن الوعي.
كانت الحصّة الأولى في الشعبة الثانية للصف الثالث الثانوي العلمي في ثانوية الخنساء بإدلب، عندما هوت فاطمة على الأرض وهي تحاول الجلوس في مقعدها الذي لا يفصله عن السبورة سوى متر واحد، وصلت غرفة الإدارة مستنجدة بالمدير الأستاذ سامي رحمه الله، أسرعت الموجّهة وعلى الأريكة المنفردة بطولها مدّدنا فاطمة
كلّ ما يهمنا الآن استعادة الطالبة وعيها، ولمّا لم نتمكن من ذلك بالإسعافات الأوليّة البسيطة طلب المدير سيّارة الإسعاف ونُقلت إلى المركز الصحيّ القريب من المدرسة.
كنت أتلهّف لمرافقتها لكنّ اثنتين وأربعين طالبة في انتظاري
عدت إليهنّ قلقة مضطربة لأجدهنّ في جدال محتدم تلك تصرخ وهذه تهمس وأخرى تبكي والكلّ يتحدّث في وقت واحد
فاطمة بخير يا بناتي أرجو أن تهدأن جميعاً.
تعالي إليَّ يا سعاد أعرف أنَّك ابنة خالتها وتربطكما صداقة قويّة.. ما هذا الذي يجري ؟؟؟
آنسة: فاطمة  تتخاصم كلّ يوم مع أهلها، لماذا؟؟ لأنّ والدها يفرض عليها وضع الغطاء الأسود على وجهها وهي تريد أن تلتزم بالحجاب الشرعي، وفاطمة تحاول إقناع والدها مستعينة بأمها ولم تنجح وأسرّت لي بأنها ستتناول حبوب الأسبرين لتموت وتتخلّص وأعتقد بأنها فعلت.
 
عدت مسرعة إلى المدير وقبل أن أنقل المعلومة الجديدة بادرني بقوله لقد أجروا لها غسيل معدة بعد اكتشافهم أنّها ابتلعت عدداً كبيراً من حبات الأسبرين وهي الآن بخير، وستنقل إلى البيت.

يا الهي ... يا الهي كم ذُهلت عندما بيّنت لي سعاد في الصفّ ما جرى بدقّة متناهية، لقد وجدت نفسي بدائرة الاتهام دون قصدٍ من الطالبة وقد استأذنتنني بالحديث الصريح أمام الطالبات آنسة ماري كلنا نحبك وكلنا نتأثّر بكلامك، ونحاول التمسّك بنصائحك والعمل بها لكنّ ظروفنا وبيئتنا لا تسمح لنا وبعد يا سعاد .. ماذا جرى لفاطمة؟

فاطمة أرادت تطبيق مقولتك التي تردّدينها على مسامعنا دائماً
(إن كنت مؤمنة ومقتنعة بفكرة سليمة منطقيّة صحيحة، فليكن تصرّفك بدافع منها علانيّة وليس بالخفاء)

صحيح هذا ما أقوله وأؤمن به
آنسة ... فاطمة غير مقتنعة بالغطاء الأسود على وجهها
فكان أمامها خياران إمّا أن تضعه رغماً عنها ... وإمَّا أن تضعه أمام والدها وترفعه ما إن تصبح خارج المنزل كما تفعل الكثيرات منّا، ولكن بعد سماعنا ما تقولين دائماً .. فاطمة أرادت ألّا تخدع والدها وحاولت إقناعه دون جدوى.

أذكر تماماً كيف فُوجئنا بصوت الجرس معلناً انتهاء وقت الحصة دون أن نفتح الكتاب
انتهى ذلك النهار القاسي ووجه فاطمة البريء يلازمني عدت إلى غرفتي في ذلك البيت الحجريّ القريب من المدرسة والمطلّ بخلفيته على امتدادات من حقول الزيتون.. كنّا نحن المدرّسات الثلاث الغريبات عن البلد نتقاسم غرف الطابق الأرضي بينما تسكن زميلتنا المدرّسة صاحبة البيت الطابق العلوي أسرعت إليها قائلة هلّا دللتني على بيت فاطمة؟؟ ومن فاطمة ؟؟
فاطمة ال..... ولماذا تسألين ؟؟
أريد الذهاب إلى بيتها مستحيل هذا الأمر ... قالت ذلك بمنتهى الصرامة والجديّة ولماذا ؟؟"هؤلاء الناس يسكنون في الحارة الشماليّة،" وما بها الحارة الشماليّة ؟؟؟
أقول لك ذهابك إلى هناك مستحيل نحن أهل البلد لا نجرؤ على الوصول إلى تلك الحارة وساد الصمت. أغلقت الباب الرئيس ورائي وتابعت سيري في الحيّ لأسأل أولّ امرأة أصادفها: "سلامات أين تقع الحارة الشمالية يا خالتي؟" بدا واضحاً استغرابها السؤال: "وماذا تريدين من الحارة الشماليّ؟" أريد زيارة أصدقاء لي" (دي امشي سيوي وبعدا اسألي)

تابعت السير ولكني بدأت أتوجّس شرًا عندما وجدت نفسي بين بيوت متفرّقة محكمة الإغلاق جدران خرساء صامتة في أعلاها نوافذ صغيرة ضيقة  صُمّمت لتحجب الكثير من الشمس  والضوء. رحت أتخيّل صوراً عجيبة غريبة لأنماط الحياة داخلها. لماذا شعرت وكأني أسير في حلم غامض؟ كنت أنتبه لحركتي وأنا أشدّ على عينيّ لأفتحهما إلى آخر مدى أستطيعه.. وأكاد أسمع همسي لنفسي هل أنا خائفة ؟؟ ولكن مهما يكن من أمر سوف أصل حيث فاطمة....فاطمة الذكيّة الطموحة المهذّبة الخلوقة والتي لا تتوانى عن الأسئلة الملحّة.
فاطمة التي ألفتُ جلوسها في المقعد الأول لتصغي باهتمام مذهل لكلّ ما أقول، سأصل إلى بيتك يا فاطمة .. تكبر خطواتي وتزداد سرعتي وأنا أردّد هذه العبارة، وها أنا أمام  دكان صغير  دخلته بخوف متردّد  وسألت هل هذه هي الحارة الشمالية؟ "ايه نعم" أجاب الرجل الذي يقف موارباً ،من فضلك هل تعرف بيت ....."الباب الثالث"
خفق قلبي وأنا أقترب من ذلك الباب الصغير، استجمعت قواي وطرقته،وأتاني صوت رجوليّ من ورائه "مين" "أنا مدرّسة ابنتكم فاطمة" وأريد أن أراها لو سمحتم لي.


انفتح الباب عن ظهر رجل ضخم وصوت يرحّب بطريقة خاصة: "مية السلامة بس بس بس تفضلي لعند الحريم،" وأشار بظاهر يده الثخينة إلى غرفة جانبية، دخلت الغرفة لأفاجأ بفوضىى التحف المتنوعة المتنافرة فيما بينها زجاجيّة ذات ألوان فاقعة، نحاسيّة صفراء محمرّة، حديديّة سوداء رصاصيّة.
جلست على طرف الكرسيّ قرب الباب أنتظر، وإذا بامرأة بدينة ملتفّة بشرشف تتداخل مربعاته الحمراء بالبيضاء، من رأسها حتّى أخمص قدميها وعيناها البارزتان تبحثان عن الزائرة: "مية السلامة مية السلامة"
"أهلاً بك يا خالتي .. أنا أدرّس فاطمة وأنا أحبها كثيراً أودّ أن أطمئنّ عليها" "هي بخير يا بنتي"
"الحمد لله ... "أريد أن أتحدَّث معك بشأن غطاء رأسها ووجهها" وأسرعت لتقول: (يا بنتي أنا مالي دخلة ابويا بيقول)

"أرجوك يا خالتي أريد أن أتحدَّث مع والدها" (أشو قلتي بدك تحكي مع الزلمة) "نعم أنا جئت لأتكلّم إلى والدها  أرجوك يا خالة" بحيرة وارتباك وعلى مضض نهضت وعادت ووراءها الرجل الضخم الذي ينظر إلى الأرض باستمرار.

"نعم ؟"

ورحت أعرّفه بفاطمة ابنته وأنا مؤمنة بكلّ كلمة أقولها كم كنت منفعلة ومتدفّقة المشاعر وأنا أرسم له مستقبل فاطمة كما أراه: "أنا أقدّر وأعرف واحترم حرصك على فاطمة لا تقلق يا عمي المحترم لأنّ تربيتك الصالحة جعلت من فاطمة فتاة قويّة مؤمنة خلوقة مهذّبة شجاعة تعرف ماذا تريد وتعرف كيف، تتعامل مع الناس لاتخاف من شيء وتعتمد على نفسها ألا ترى علاماتها كم هي متفوّقة؟؟؟"
وأقول وأقول  وأرقب بطرف عيني هذا الأب الصامت المصغي الذي لا يرفع رأسه ولا يبتعد بنظره عن ارض الغرفة، والأم في الزاوية الأخرى تذرف دمعاً صامتًا أفهمه وأعرف مبعثه، ولمّا توقفت عن الكلام شعرت بشيء حار يتسلّل في صدري ويتدحرج كالكرة شاقّاً طريقه عبر صوتي كلمات رأيتها صورة واضحة مالئة المكان أمامي: "هذه الغرفة سأعود لزيارتها بإذن الله بعد عشر سنوات وسوف تكون عيادة الطبيبة فاطمة"

ولوهلة وقع نظر الرجل على وجهي وتمتمت شفتاه: "والآن ماذا تريدين؟"

"أريد أن تسمح لفاطمة بالتزامها بالحجاب فقط لتكمل دراستها" وانطويت على ذاتي وحبست أنفاسي وأنا أتوقّع كلّ الردود الممكنة وغير الممكنة، وإذا به ينهض ويسير مسرعاً ليفتح باب الغرفة ويصرخ: "فطومة تعالي"
أسرعت فطومة بالدخول ووقفت كجنديّ ينتظر الأوامر، هممت لاحتضانها ولكن تراجعت لأسمع القرار:"إني أسمح لك بالحجاب وانا أفتخر بك يا ابنتي، واحتضنت فطومة وبكينا معاً."

سبع عشرة سنة مضت بعد إنهاء خدمتي في إدلب كانت أمي رحمها الله وهي في قمة رضاها عليّ تدعو لي قائلة الله يطعمك يا بنتي زيارة لإدلب ، وكانت الزيارة التي ما زالت ذكراها محفورة بقلبي وقلبي ولديّ وقد صحبتهما إلى عيادة الطبيبة فاطمة ولكن في شارع الجلاء وليس في الحارة الشماليّة (الحارة الشماليّّ)

شارك برأيك .. لتكتمل الصورة


استطلاعات الرأي

يجب ان تختار خيار قبل ارسال التصويت
هل تعتقد أن الوقت قد حان لبدء تطبيق الدفع الإلكتروني في سوريا؟
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني
النتائج
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني

الأكثر مشاهدة هذا الشهر