من مذكرات مدرِّسة (6)

من مذكرات مدرِّسة (6)

ماري عربش

باكيةً قلقةً مضطربةً  دخلت غرفة الإدارة وهي تردّد: "سُرقت محفظة النقود وفيها معاشي كاملاً" "اهدئي  اهدئي أرجوك تعالي اجلسي هنا"

كان اليوم الأول من الشهر حيث يتقاضى المدرسون مرتّباتهم، "متى تسلّمت مرتّبك؟" "في  الفرصة الأولى" -ذلك يعني بعد انتهاء الحصة الثانية-
"وأين أمضيت استراحتك " "في غرفة الموجهات" "وأين كانت حقيبة يدك" "كانت بيدي طوال الوقت" "ومتى تفقّدتها ولماذا؟" "بعد انتهاء الحصة الثالثة خرجت من المدرسة قاصدة أقرب محلّ هنا لشراء بعض الحاجات مستغلّة فراغي في الحصة الرابعة، وقبل وصولي المحلّ فتحت حقيبتي لأخرج محفظة النقود فلم أجدها، فعدت مسرعة إليك الأمر واضح" "اهدئي أرجوك لا أستطيع استيعاب الأمر  بما أننا حدّدنا الساعة تعالي لنرى في أيّ صف كانت حصتك الثالثة"

ومعاً نظرنا بسرعة إلى البرنامج الأسبوعي المثبت تحت زجاج الطاولة .. فتبيّن أن الدرس كان في الشعبة الأولى للصف الثاني الإعدادي إذن تمت العملية هنا في هذا الصف "أرجوك تابعي عملك بهدوء ودعيني أتصرّف" كما تريدين
عدت إلى البرنامج أمامي على الطاولة لأرى بأنّ الدرس الآن أقصد الحصة الرابعة في الشعبة المقصودة هو درس ديانة قلت في نفسي لا بدّ من نجاح الخطّة التي ارتسمت ملامحها في ذهني واضحة جليّة أولاً يجب الانتظار حتى اقتراب الحصة من الانتهاء وثانياً الدخول الى الصف قبل خروج الطالبات الى الفرصة الثانية
وبينما كنت أعدّ الدقائق لانتهاء الدرس أسئلة ملحّة داهمت رأسي وراحت تطرقه بقسوة عجيبة: كيف لفتاة صغيرة أن تمدّ يدها لتسرق؟ كيف لها أن تتجرّأ لتفتح حقيبة المدرّسة؟ كيف تفكّر؟ كيف رُبّيت؟ من أهلها؟ ما البيئة التي نشأت فيها؟ من هي أمها؟ تُرى هل أهلها مشغولون عن تربية أولادهم؟ ما هي أحوالهم الماديّة؟

تزاحمت الأفكار وأنا أبحث عن خطّة لإنقاذ الطفلة نعم أراها طفلة وعليّ أن أنقذها أن أوجّهها أن أعلّمها أن أوضّح لها حقائق الأمور أن... أن... أن... شعرت بمسؤولية كبيرة كبيرة تقع على عاتقي، أولاً وأخيراً عليّ أن اعمل على عدم انتشار الخبر ابتداءاً من صفها وانتهاءاً بالبلدة كلها يا إلهي ساعدني للوصول إلى غايتي

وقبل نزولي إلى الصف كانت المفاجأة الأولى التي سمّرتني مذهولة ممّا سمعت يجب أن نستدعي الشرطة ونفتش كلّ الطالبات لنعثر على النقود
 بقوة وإصرار طرحت الموجّهات في المدرسة اقتراحهنّ "ماذا تقلن؟" هذا الأمر مستحيل وبسرعة قالت إحداهن: "لقد أعلمتنا المدرّسة بأيّة شعبة كانت فلندخل لنفتش الحقائب،" "وهذا مستحيل أيضاً أرجو أن تتركن الموضوع لي وأنا سأتصرف."


انصرفت الموجّهات حائرات بأمرهنّ تابعت توجّهي إلى الصف المقصود طلبت من مدرّسة الديانة أن تتركني والطالبات، أغلقت الباب بإحكام
والتزمت الصمت لبضع دقائق وأنا أطوف بنظري فوق هذه الوجوه الطفولية الغضّة وأكاد لا أصدِّق أنّها قادرة على فعل ما جرى. العيون كلّها معلّقة في وجهي ترقّب مشوب بالخوف والحذر والحيرة، وسمعتني أقول كلمات شعرت بها تنفلت من أعماق قلبي كلمات تحمل نبض ثقتي وإيماني بها
"اسمعنني يا بُنياتي لقد خرجت للتو مدرّسة الديانة وأنا أعرف تماماً بأنّها تحثكنّ دائماً على الالتزام بالصدق والأمانة"
.
صمتٌ مطبق.. إصغاء تام .. نظرات حائرة .. قلوب صغيرة واجفة ... رؤوس ثابتة .. توجّس واضح ملحوظ، وأطلقتُ العبارة المسجونة بقوة هادئة لتنعدم المساحة الفاصلة بين الحقيقة والتوقّع: "المدرسة م .. فقدت محفظة نقودها هنا عندكنّ فهي لا شكّ مع واحدةٍ منكنّ وأنا أقول لكنّ إنّ الطالبة التي أخذتها تستطيع أن تكذب عليّ .. وعلى رفيقاتها .. وعلى أهلها .. وعلى كلّ من يتهمها ولكن عندما تأوي إلى فراشها وتنفرد بذاتها تُرى هل تستطيع أن تكذب على نفسها؟ هل تستطيع أن تكذب على الله الذي يرى كل شيء ويعرف ما في القلوب؟ ( إنّ الله لا يخفى عليه شيء لا في الأرض ولا في السماء) (إنّه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون)  أليس كذلك يا صغيرات؟ أنا أعرف بأنّ التي أخذت المحفظة غير مدركة لخطورة تصرّفها ولا لحجم خطئها الذي ارتكبته  وأنا موقنة تماماً بأنها الآن نادمة على ما فعلت، وعدت إلى الصمت قليلاً ثمّ وجّهت إليهن السؤال الذي يقلقهنّ ولا شك ماذا تنتظرن منّي فعله؟"
رأيت بعض الشفاه تتحرك ولكن لم يصدر عنها صوت  وتابعت: " هل تنتظرن مني أن أفتّش حقائبكنّ؟" ورأيت كيف تتقلّص الأحجام، وكيف تنطوي الأجساد على ذواتها، وبكل هدوء قلت: "لا لا هذا أمر مستحيل لن أفعل ذلك أبداً لديّ ما أفعله بمساعدتكنّ ستغمضن عيونكنّ وخلال دقيقة واحدة كل طالبة تمد يدها داخل محفظتها وتعود لتضعها داخل درج مقعدها ثمّ تغادرن الصف وبالتأكيد من لديها محفظة النقود ستضعها داخل درج مقعدها دون أن تراها رفيقاتها حتى أنا لن أراها، وكما كنت دائماً صادقة معكن ستكنّ صادقات وأعدكنّ بأنّه ما من أحد سيعرف مع من كانت المحفظة
 لأني سآخذها من أحد المقاعد بعد مغادرتكن الصف، إذن أغمضن عيونكنّ الآن وعندما أقول لكنّ انتهى الوقت سأفتح الباب وتخرجن."


يا الهي كم كنت مؤمنة بأنّ طريقتي ستنجح، يا للذهول الذي تملّكني عندما فتحت الباب لأرى الموجهات واقفات كسيوف مسلولة عنده، وما إن بدأت الطالبات بالخروج حتى صرخت واحدة من الموجهات: "ها هي ها هي لقد سقطت من مقعد الطالبة ف. إنها المحفظة!"

وانقضت بسرعة البرق نحو الطالبة لتمسك بها قد تكون المرّة الوحيدة التي ارتفع بها صوتي المرتجف اتركي الطالبة وانصرفي ماذا أقول؟ لحظة مجنونة واحدة كافية للتخريب والهدم. تماسكت وقلت للطالبة التي راحت تجهش بالبكاء اصعدي الى غرفة أمانة السرّ وسوف الحق بك.

أخذت محفظة النقود من الموجّهة ودخلت غرفة الإدارة وقد تداخلت كلّ صور الجهل والتخلف ونزعة التسلط والاستبدادوكل ما لا يمتّ إلى التربية بصلة أمام عينيّ الزائغتين، والآن طلبت من أمينة السر أن تبقى مع الطالبة ومن المستخدم أن يذهب إلى والد الطالبة ليقول له إنّ المديرة تطلب منك الحضور إلى المدرسة لأمر يتعلق بابنتك.

ما زلت أذكر تماماً كيف حذّرني أحد المدرسين من والد الطالبة وأردف قائلاً: "لن أغادر المدرسة قبل انصراف الرجل أنت لا تعرفين الناس جيداً."

 ويدخل الرجل الإدارة، "السلام عليكم"
"وعليك السلام يا أبا..." "أنا أبو خالد"
"أهلاً بك" "خير  خير ما بها البنت؟"
"اشرب القهوة أولاً أنت في المدرسة للمرّة الأولى أهلاً بك، أحياناً يا أبا خالد يفاجئ الأولاد أهاليهم بتصرّفات عجيبة غريبة غير متوقّعة."

"أنا أعرف بأنك تبذل كلّ ما بوسعك لتربية أولادك أحسن تربية، لكنّ رفاق السوء أحياناً تجعلهم ينحرفون" وانتفخت أوداج الرجل واحمرّت عيناه وانتصب واقفاً: "ماذا تقولين؟"

لن أنسى ما حييت هاتيك اللحظات وانتظرت وقوع الشرّ المستطير: "ماذا تقولين أنا أعرف ابنتي، أين هي؟ أقسم بالله لن أتأخّر في ذبحها"

يا الهي إله الأحياء والأموات همست لذاتي إذن الغضب لن يحلّ عليّ: "أرجوك إهدأ يا أبا خالد أنا سألت عنك والكل شهد بأنك رجل صالح ومؤمن وابنتك إذ أخطأت فلأنها ما زالت صغيرة ولا تدرك أبعاد تصرفاتها ومهما كان خطؤها كبيراً فثق يا أبا خالد بأني سأحتضنها وأرعاها كأمها" هدأ الرجل وهمد
عندها قلت له: "لقد أخذت ابنتك محفظة النقود من حقيبة المدرّسة التي وضعتها على الطاولة أمامها."
"طبعاً لن تكون راضياً عن هذا التصرف ولكن دعنا نتعاون معاً لنردّها إلى جادة الصواب أنتم في البيت وأنا هنا ولن أعاقبها بالفصل والانقطاع عن الدوام فالبلدة صغيرة والأخبار تسري سريان النار في الهشيم."

مرّة أخرى هبّ الرجل واقفاً وقال: ألست ابنة أبو سمير؟ "نعم نعم أنا ابنة أبو سمير"
وراح يكرّر عبارة "رحم الله والدك كم كان..وكم كان.." خرج الرجل مع ابنته ذليلاً مغلوباً على أمره.

وكان الفشل الثاني عندما عقدنا مجلس الانضباط، الكلّ مصرّ على فصل الطالبة، وأنا متمسّكة بموقفي الحريص على سمعة الطالبة والاهتمام بها ومعرفة ظروف بيئتها للأخذ بيدها وتوجيهها التوجيه السليم.

واتُخذ القرار بحضور الطالبة الى المدرسة لأسبوع كامل دون الدخول الى صفّها.
وما زال السؤال يكبر  رغم مرور كلّ هذه السنوات: أين المنظومة التربوية الواحدة في المدرسة والبيت والشارع وكل مكان في وطني؟

شارك برأيك .. لتكتمل الصورة


استطلاعات الرأي

يجب ان تختار خيار قبل ارسال التصويت
هل تعتقد أن الوقت قد حان لبدء تطبيق الدفع الإلكتروني في سوريا؟
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني
النتائج
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني

الأكثر مشاهدة هذا الشهر