الغذاء في سورية... هل تستطيع المنظومة الزراعية أن تواجه القادم؟

الغذاء في سورية... هل تستطيع المنظومة الزراعية أن تواجه القادم؟


المشهد – عشتار محمود
تشير تقارير منظمة الفاو (منظمة الزراعة العالمية) إلى أن سورية هي خامس أكبر أزمة أمن غذائي عالمياً، حيث 36% من السكان يعانون من نقص الأمن الغذائي ويحتاجون المساعدات للاستمرار... وذلك في عام 2018 وقبل تصاعد العقوبات وتعقد الوضع الاقتصادي المحلي وتراجع قيمة الليرة، والأهم قبل الأزمة الدولية الحالية التي تفتح الأبواب على وضع اقتصادي عالي التعقيد.
دخل العالم أزمة اقتصادية دولية أعلى مستوى من أزمة عام 2008، والتوقعات الأولية من أزمات من هذا النوع أن تنعكس ارتفاعاً على أسعار السلع والمواد الغذائية تحديداً على المستوى العالمي كما حصل بين عامي 2007-2010، فالاقتصاد العالمي الذي أصبح عالي الترابط يضرب في أزمته النقاط الأضعف أي المواضع الأكثر ارتباطاً بالمنظومة والتي تعتمد عليها في غذائها وحاجاتها الأساسية على السوق الدولية.
وبناء على ما سبق فإن سورية التي أصبح أكثر من ثلث سكانها غير آمنين غذائياً، ومعظم سكانها تحت خط الفقر الدولي أي غير قادرين على تأمين حاجاتهم الأساسية هي من بين الدول التي ينبغي أن ترفع (جرس إنذار) لمواجهة التعقيدات الإضافية التي يضيفها الوضع الاقتصادي الدولي، إلى التعقيدات المحلية.
 
قد يقول قائل إن البلاد قادرة على تأمين حاجات غذائها الأساسية، مع استدامة زراعتها نسبياً وتنوع مواردها الزراعية لتغطي مكونات الغذاء الأساسية، وهذا صحيح نظرياً، ولكن نقص الغذاء لا يرتبط بمجرد توفّره وإنتاجه، بل المؤشر الأهم هو إتاحته، أي هل يستطيع سكان سورية أن يحصلوا على هذا الغذاء إن كان موجوداً؟!
وهنا يأتي السؤال الأساسي المرتبط بمستوى الدخل وعلاقته بأسعار الغذاء... خلال سنوات الأزمة أصبح الغذاء المنتج في سورية أو المستورد لها من أكثر المواد تقلباً في الأسعار، والسلعة التي تقود ارتفاع تكاليف المعيشة على مستوى البلاد. فعملياً ارتفعت تكاليف معيشة أسرة خلال عام مضى بنسبة تفوق 30% أما أسعار الغذاء فقد ارتفعت بمستوى أعلى، إذ في الأشهر الثلاث الأخيرة فقط سجلت ارتفاعاُ بنسبة 36%، وأكثرها ارتفاعاً المكونات المحلية كاللحوم ومشتقاتها، والخضار والفواكه، إضافة إلى المكونات المستوردة مثل الرز والزيت النباتي والسكر.
ولكن أزمة الأسابيع الماضية المتعلقة باضطرابات الوضع الاقتصادي الدولي والإغلاق المحلي، أدت عملياً إلى ارتفاع غير مسبوق في أسعار المكونات مثل الخضار والفواكه التي يتم تغطية الحاجة إليها من الإنتاج المحلي بالدرجة الأولى بينما يتم استيراد القليل لتغطية النقص بين المواسم كما في حالة البطاطا والثوم مثلاً.
إن وصول أسعار البصل والثوم والبطاطا والتفاح والبرتقال إلى أسعار غير مسبوقة في أي موسم من مواسم الأزمة السورية، يشير إلى أن نقصاً في الكميات طرأ خلال العام الماضي، وجعل هذه السلع الأساسية مسعّرة عند هذه المستويات، كما أن المزارعين يتحسبون للارتفاع القادم في تكاليف إعادة الإنتاج مع ارتفاع كبير في كل المكونات فعلياً: البذار، والوقود والنقل واليد العاملة، والمبيدات والأدوية، والتي ترتبط جميعها بتراجع قيمة الليرة وارتفاع سعر الدولار، إضافة إلى (الطامّة الكبرى) المتمثلة برفع أسعار الأسمدة بنسبة تراوحت بين 41-100%.
إن الإنتاج المحلي مرتبط بكامله بشكل أو بآخر بالوضع الاقتصادي العالمي، لأن الليرة بالمحصلة ارتبطت بالدولار وتقلباته، والأزمة الأكبر أن طبيعة نشاط الأموال والمتمولين في سورية يرتبط بالخارج ولهذا آثار كبيرة، فعلى سبيل المثال قد تدفع أزمة غذاء عالمية إلى ارتفاع كبير في أسعار مكونات مثل الحبوب والبقول، فيصبح تهريب القمح والعدس والحمص المنتج محلياً مغرياً كما هو اليوم تهريب الأغنام والبيض وتتحول حركة التهريب هذه التي تنشط فيها قطاعات مال متنفذة لتطال كافة المكونات وترفع الأسعار حتى لو كان الإنتاج المحلي فائضاً... ويتحمل السوريون تكاليف ربح التهريب.
البنية الاقتصادية اليوم غير قابلة على مواجهة أزمة من هذا النوع، وتعقيدات يضيفها المشهد الدولي، ستنعكس مباشرة على كلف الغذاء كما أثبتت سنوات الأزمة.
التقديرات تقول اليوم أنه كي تغذي أسرة من خمسة أشخاص في دمشق بالغذاء المنوع والضروري، عليك أن تدفع ما يقارب 230 ألف ليرة. بينما بالمقابل فإن الحد الأدنى للأجر في سورية أصبح يقارب 50 ألف ليرة وعلى الأسرة أن تشغل خمسة من أفرادها بالحد الأدنى للأجر كي تستطيع أن تؤمن الغذاء الضروري المنوّع.!

 
مواجهة أزمة الغذاء تتطلب نقلات كبرى في السياسات الاقتصادية الزراعية تحديداً، فالمزارعين في سورية يفعلون ما عليهم، إنهم يزرعون أراضيهم التي يستطيعون الوصول إليها، أو التي لا تزال الجدوى والعائد ممكن من زراعتها.
وبمقارنة المساحات المزروعة في العام الحالي بالمقارنة مع عام 2011، وبناء على تصريحات وزارة الزراعة في الحبوب والبقول الأساسية، يتبين أن مساحات القمح عادت إلى مستويات 84% من مستويات عام 2011.
بينما البقول تراجعت بمستويات أعلى، وتحديداً الحمص المساحات المزروعة أقل من نصف مساحات عام 2011، بينما العدس والفول تراجع بنسبة أقل، بينما حبوب مثل البازلاء زادت مساحات زراعتها عن عام 2011 بنسبة 40% تقريباً

.ولكن المشكلة ليست في المساحات بقدر ما هي في انخفاض غلة معظم المحاصيل، وارتفاع كلف الإنتاج... فمحافظات مثل درعا عادت إلى مستويات ما قبل الأزمة بسرعة نسبياً، ولكن الغلة لم تتحسن، والمشكلة الأساسية في الغلة هي تراجع استهلاك السماد، بالإضافة إلى غياب أنواع البذار المحسنة التي كانت توردها المؤسسة العامة لإكثار البذار التي لم تعد تؤمن إلا نسبة تتراوح بين 10-15% من حاجات بذار القمح، بينما يعتمد المزارعين بالدرجة الأولى على استخلاص بذورهم من محصولهم أو من أنواع البذار الموجودة في السوق والتي إنتاجيتها وغلتها أقل، وغير مدروسة.
الزراعة تحتاج إلى دعم أكثر من أي وقت مضى، والدعم غائب بشكل شبه تام، فأبسط أشكاله وأقلها تكلفة على الحكومة وهو تأمين الإقراض الزراعي لم يعد موجوداً فقروض المصرف الزراعي أصبحت موجهة بالدرجة الأولى للمؤسسات الحكومية لتقوم بشراء القمح وبعض المحاصيل لا أكثر.
المشكلة الزراعية اليوم تتمثل بالدرجة الأولى في التمويل الحكومي، لأن زراعة دون دعم هو مسألة عبثية وتصبح العملية الإنتاجية معتمدة على المواسم والأمطار وجهد المزارعين، ويصبح الموسم عرضة للتهديد في حال تراجع الهطول المطري كما في عام 2018... إن تعقيدات الوضع القادم يحتاج إلى جهود زراعية تتجاوز عودة المزارع إلى أرضه: هنالك حاجة ملحّة لبذار ترفع الغلة، ووقود متدفق بسعر منطقي غير متقلب، وأسمدة بسعر منطقي أقل من الأسعار العالمية! وشبكات ري. وكل ما سبق يرتبط بتمويل الحكومة للإنتاج الزراعي ولن يقوم أي طرف بالسوق بالتصدي لهذه المهمات.
المشكلة الثانية هي في السوق، إن تقطع أوصال البلاد وصعوبات النقل وتكاليف الأتاوات هي مشكلة زراعية أيضاً، فهي تتحول إلى كلفة إضافية للمزارع يدفعها المستهلك، ويتحول جزء هام من الناتج الزراعي إلى جيوب أصحاب الأتاوات.
الزراعة السورية تتمتع بمرونة عالية لتجاوز الصدمات، إننا نزرع مساحات واسعة، بمنتجات ومحاصيل متنوعة تستطيع أن تغطي الجزء الأعظم من السلة الغذائية المتنوعة، ولدينا إرث وتقاليد عمل زراعي يستطيع أن يتكيف مع المتغيرات ويعيد المزارعين سريعاً إلى العمل في أراضيهم، كما أن لدينا ميزة هي بقاء نسبة هامة من سكان سورية يقطنون في الأرياف (47% من السكان) ولكن كل هذه العوامل إذا لم تتكامل مع خطة وتمويل حكومي تصبح عوامل عرضية لا تستطيع أن تواجه أزمات جدية قائمة وقادمة..

 

 

شارك برأيك .. لتكتمل الصورة


استطلاعات الرأي

يجب ان تختار خيار قبل ارسال التصويت
هل تعتقد أن الوقت قد حان لبدء تطبيق الدفع الإلكتروني في سوريا؟
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني
النتائج
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني