كيف ينفذ الجيش الروسي حرباّ سريعة ضد أوكرانيا بنتائج جيوسياسية عميقة

كيف ينفذ الجيش الروسي حرباّ سريعة ضد أوكرانيا بنتائج جيوسياسية عميقة

في الساعات الأولى من يوم الخميس 24 شباط/فبراير 2022 نفذت القوات الروسية هجوما كاسحا ضد أوكرانيا ووصلت إلى العاصمة كييف في أقل من 24 ساعة وبدأت محاصرتها ونجحت في ظرف ساعات في تدمير جزء هام من البنية العسكرية لهذا البلد، مستفيدة من التقدم العسكري المرعب للصواريخ وعمليات الإنزال الجوي الخاطفة.

كل هذا يجعلها أول حرب حديثة بكل المقاييس مقارنة مع الحروب السابقة وأكبر عملية عسكرية بعد الحرب العالمية الثانية. وهذه الحرب ستكون فاصلة في الحقل العسكري خلال العقود المقبلة وما يترتب عنها في المجال السياسي.

 

وكانت كل المعطيات تشير منذ أسابيع إلى هجوم روسي بعدما استعدت روسيا اقتصاديا وعسكريا وسياسيا. وكانت وكالات الاستخبارات الغربية وعلى رأسها الأمريكية محقة في تحاليلها حول حتمية الحرب، غير أنها لم تكن تنتظر عملا عسكريا بهذا الحجم وتحقيق نتائج في ظرف زمني قياسي مقارنة مع الحروب التي سبقت.

 

ويبقى السبب الرئيسي لهذه الحرب هو رفض موسكو مزيدا من توسع الحلف الأطلسي نحو أراضيها لاسيما في أوكرانيا التي تمتلك حدودا طويلة جدا مع روسيا، وبالتالي قد تحتضن عددا من القواعد العسكرية الغربية في حالة انضمامها إلى الحلف الأطلسي، وأعربت كييف عن هذه الرغبة، مما سرّع بوقوع الحرب.

 

حرب سريعة

 

واهتم خبراء الأسلحة والحروب بالهجوم الروسي على أوكرانيا لمعرفة معطيات رئيسية ستحدد مستقبل الحروب وسط القارة وميزان القوى وبالتالي الوضع الجيوسياسي مستقبلا. ومن أبرز المعطيات التي حظيت بمراقبة كبيرة هناك:

في المقام الأول نوعية السلاح ومدى فعاليته، لأن الحروب تكون ميدانا للاختبار الحقيقي للأسلحة كما وقع خلال العقدين الأخيرين في حرب العراق ثم سوريا.

في المقام الثاني طريقة انتشار الجيش الروسي في مواجهة القوات الأوكرانية، هل ما زال يعتمد الطريقة الكلاسيكية السوفييتية أم أصبح جيشا بمقاييس حديثة.

في المقام الثالث هو أن هذه الحرب هي الأولى التي ستخوضها روسيا بعد تحديث عتادها العسكري، ثم ستخوضها ضد دولة تحتل المركز 25 في الترتيب العالمي للقوى العسكرية، وبالتالي تعد أوكرانيا متقدمة عسكريا على عدد من دول الحلف الأطلسي مثل هولندا وبلجيكا ومتقاربة مع دول أخرى مثل بولونيا ونسبيا إسبانيا. ويضاف إلى كل هذا توفر أوكرانيا على أسلحة غربية حديثة  من دول الحلف الأطلسي مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، وبالتالي هل سيكون لها مفعول أم لا.

وفجر الخميس من الأسبوع الجاري، بدأ الجيش الروسي هجوما من جهات متعددة ضد أوكرانيا شمل القصف الجوي ثم التقدم البري في نقاط معينة والقصف البحري وأخيرا هجمات الكوماندوز ضد المناطق الحساسة.

في هذا الصدد، رسم الجيش الروسي هدفا رئيسيا وهو تدمير القوة العسكرية الأوكرانية لإجبار هذا البلد على الاستسلام. وراهن منذ البدء على قوة نارية مرعبة من خلال استعمال مختلف الصواريخ التي تتوفر عليها الترسانة الروسية. ويجهل نوعية كل الصواريخ التي نفذ الجيش الروسي الهجمات الأولية بها لخلق الصدمة وسط القوات الأوكرانية. واستعملت روسيا أساسا "كاليبر" وهو صاروخ دقيق للغاية في ضرب الأهداف، ومن المحتمل أن تكون استعملت بشكل محدود صاروخ "زيركون" لتجربته في هذه الحرب. واستعملت سلاح الجو المكون أساسا من سوخوي 34 وسوخوي 35، كما استعملت الطائرات المروحية من نوع Ka-52 علاوة على الدبابة تي 90 المتطورة التي يتم بها محاصرة كييف.

وعمليا، نجحت القوات الروسية في ظرف 48 ساعة، أي ما بين فجر الخميس إلى فجر السبت من تدمير أكثر من نصف البنية العسكرية الأوكرانية وتقريبا محاصرة كييف. وقدمت وزارة الدفاع في موسكو معطيات حول بنك الأهداف المستهدفة. ويبقى المنعطف هو نجاح القوات الروسية في الوصول إلى مشارف العاصمة كييف فجر الجمعة، أي في ظرف 24 ساعة فقط من بدء الهجوم. وشككت المواقع العسكرية مثل «ميليتاري واتش ماغازين» الأمريكية في الخسائر التي تقول وزارة الدفاع الأوكرانية أنها ألحقتها بالقوات الروسية خاصة إسقاط الطائرات.

 

الحرب بإيقاعين

ويعتمد الجيش الروسي في حربه الحالية ضد أوكرانيا إيقاعين مختلفين، الأول وهو مكثف ضد العاصمة كييف في محاولة لدفع السلطات الحاكمة إلى الاستسلام، والثاني بطيء في شرق البلاد لتفادي وقوع خسائر بحكم وجود نسبة هامة من السكان الموالين لموسكو.

وعلاقة بالإيقاع السريع المستهدف كييف، ترغب القوات الروسية في السيطرة على المربع الأمني خلال أيام معدودة، والمربع الأمني هو مقرات القرار الأوكراني من رئاسة وبرلمان وقيادة الجيش في العاصمة. وهذا سيعني إما استسلام القيادة الأوكرانية أو هروبها إلى الخارج، وفي كلا الحالتين سيساعد على قدوم سلطات جديدة مرنة في التفاوض مع روسيا. وقد بدأ الرئيس الأوكراني فولودميرو زيلينسكي يقبل بالفكرة عندما قبل بالتفاوض مع موسكو حول حيادية أوكرانيا.

من جهة أخرى، توجد تساؤلات وسط المهتمين بالحرب الدائرة حول الإيقاع البطيء في التقدم في شرق البلاد وكذلك في المناطق البحرية المطلة على البحر الأسود مثل ميناء أوديسا الاستراتيجي. ويجري الحديث عن وجود مقاومة شرسة في دونباس شرق البلاد في مواجهة القوات الروسية وكذلك في مناطق أخرى وخاصة الساحلية.

ومن ضمن الأسباب التي جعلت موسكو تعلن الحرب ضد سلطات كييف هو اتهامها بأنها قررت القضاء على اللغة الروسية وكذلك العادات والثقافات الروسية وفرض اللغة الأوكرانية بالقوة في مجموع البلاد. ولهذا يستعمل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مصطلح «النازية» في وصف الرئيس فولودومير زيلينسكي ومساعديه. وتأمل الخريطة اللغوية، ستبرز أن 93 في المئة من شرق البلاد يتحدثون اللغة الروسية، وقرابة 84 في المئة جنوب البلاد خاصة المناطق الساحلية، و60 في المئة في الوسط الشرقي، بينما في وسط البلاد أكثر من 70 في المئة يتحدثون اللغة الأوكرانية وترتفع النسبة إلى 90 في المئة غرب البلاد.

في الوقت ذاته، ترتبط نسبة كبيرة من المسيحيين الأرثودوكس شرق البلاد بالكنيسة الروسية، ولا يرغب الكرملين في التسبب في مآس تنعكس سلبا على الروابط الدينية بين روسيا وأوكرانيا لاسيما بعدما قررت رئاسة زيلينسكي تشجيع تجمعات الكنيسة الأرثودوكسية الانفصال عن روسيا والارتباط بكنيسة وطنية.

وعليه، الإيقاع البطيء شرقا للحرب وفي مناطق أخرى عكس العاصمة يهدف إلى تفادي سقوط ضحايا ثم عدم التسبب في انفجار مقاومة ضد القوات الروسية حتى يتسنى لها التركيز فقط على كييف.

دروس حرب أوكرانيا

لم تنته الحرب بعد في أوكرانيا، لكن طريقة الهجوم الروسي خلال اليومين الماضيين، تسمح باستخلاص عدد من النتائج، وبالتالي المعطيات التي ستتحكم في العلاقات الجيوسياسية بين الغرب وروسيا.

أولاً تخلصت روسيا من التردد الذي طبع تصرفاتها بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وأظهر هذا العمل العسكري أن الهجوم على أوكرانيا سنة 2008 ثم ضم شبه جزيرة القرم سنة 2014 كان سياسة ثابتة للدفاع عن المصالح العميقة لروسيا، إذ لم تتردد في الهجوم على أوكرانيا في وقت قد ينفلت هذا الصراع ليشمل جزءا كبيرا من القارة الأوروبية. وهذا سيعني أن روسيا قد تشن حربا على دولة أخرى إذا ما شكلت خطرا عليها.

ثانياً تؤكد الصناعة العسكرية الروسية التطور الذي حققته خلال العقدين الأخيرين، ما جعلها قوة مرعبة ستمنح لموسكو الزخم والسند في فرض أي مطلب سياسي مستقبلا.

ثالثاً أظهر التخطيط العسكري الروسي تفوقا ملفتا، حيث بدأ خبراء الحرب يقارنون بين التقدم الأمريكي المدمر في حرب العراق سنة 2003 الذي استغرق وقتا طويلا وخلف عشرات الآلاف من القتلى مع التقدم الروسي في أوكرانيا الذي يشبه عملية جراحية، وذلك رغم اختلاف السياق لكن مع قوة أكبر لأوكرانيا مقارنة مع العراق. وتكون النتيجة هو ثقة روسيا في استراتيجيتها الحربية وصناعتها العسكرية، وكل هذا سيكون محددا للتعاطي مع الكثير من القضايا الجيوسياسية مستقبلا.

شارك برأيك .. لتكتمل الصورة


آخر المقالات

استطلاعات الرأي

يجب ان تختار خيار قبل ارسال التصويت
هل تعتقد أن الوقت قد حان لبدء تطبيق الدفع الإلكتروني في سوريا؟
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني
النتائج
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني