في شهر الميلاد.. شموعٌ كنسيةٌ أنارت تاريخ سورية

في شهر الميلاد.. شموعٌ كنسيةٌ أنارت تاريخ سورية

حسن فخور | المشهد

تعاقبت على سورية العديد من الحضارات التي أغنت إرثها العالمي وتاريخها الإنساني على مدى عقودٍ؛ مما جعل منها بلداً متعدد الأعراق والثقافات والأديان؛ كان لكلِ مكونٍ منها بصمته الخاصة التي ساهمت في صياغة بلدٍ صدّر للعالم الحياة، ومع اقتراب عيد الميلاد الذي يحتفل به الشعب السوري على اختلاف فئاته؛ لا بدَّ أن نذكر أهم الشخصيات المسيحية التي كان لها أثراً واضحاً في تعزيز القيم الوطنية على اختلاف أدوارهم.

أبو الفقراء:

أعظم التعاليم الدينية تلك التي ترتقي بالإنسان وتبني كيانه، حين تظهر واضحةً في نمط حياة معتنقيها، والتي تجسدت في مواقف البطريرك غريغوريوس حداد الإنسانية يوم فتح أبواب البطريركية أمام الناس في المجاعة التي ضربت بلاد الشام خلال الحرب العالمية الأولى، حيث كان يوزع الخبز على كل من يقصد الكنيسة المريمية دون سؤاله عن ديانته؛ مما اضطره إلى رهن أوقاف البطريركية والأديرة السورية كلها؛ كما باع مقتنيات الكنائس الذهبية والفضية من أواني وآثار ومقدسات مسيحية من بينها صليب ذهبي كان قد أهداه إياه القيصر نيقولا الثاني خلال زيارته لروسيا،واستدان أكثر من عشرين ألف ليرة ذهبية لمساعدة المتضررين من ويلات الحرب ولتأمين ثمن القمح اللازم لإطعام الجائعين. ومن أشهر المواقف التي عُرِف بها يوم حضر فقيرٌ يطلب حاجته، فسأله أحد الإكليريكيين المرافقين للبطريرك عن ديانته، فثارت حفيظة البطريرك قائلاً: هل تمنع عنه الصدقة إذا كان من ديانة غير ديانتك؟ ألا يكفيه ذلاً أنه مد يده إليك لتذله بسؤالك عن عقيدته؟ ويوم اشتكى المسؤول عن توزيع الخبز من كثرة عدد المسلمين الذين يحضرون لأخذ الخبز، فرفع البطريرك الرغيف عالياً بين يديه وسأل موزع الخبز: هل كتب عليه للمسيحيين فقط؟ عليك توزيع الخبز بمعدل رغيف يومي لكل إنسان يريد! رحل "أب الفقراء" اللقب الذي أطلقه عليه المسلمون منذ ما يقارب القرن، وما زال الدمشقيون يمجدون ذكره، وخرج في جنازته (1928) قرابة 80 ألف مسلم، وأرسل الملك فيصل ملك العراق وقتها 100 فارسٍ من الخيالة الملكية ليشاركوا في مراسم التشييع، وأطلقت الحكومة السورية 100 طلقة مدفعٍ إجلالاً لمسيرته.

فارس بك:

لا يمكنك أن تتحدث عن تاريخ سورية الحديث دون أن تطرق عشرات المرات ربما للزعيم فارس بك الخوري؛ الأستاذ والمحامي والزعيم الوطني وصاحب الاستقلال الذي شارك في تأسيس ميثاق دستور الأمم المتحدة؛ المسيحي الذي نطق الشهادة في الجامع الأموي رداً على الانتداب الفرنسي؛ وزير الأوقاف الذي ائتمنه المسلمون على دينهم ودنياهم؛ أول رئيسٍ للوزراء من الديانة المسيحية، ورئيس مجلس النواب؛ أحد مؤسسي الدولة السورية. بدأ حياته مدرِّساً ثم محامياً، وأسس كلِّية الحقوق ونقابة المحامين في دمشق ، كما أسس حزب الشعب برفقة الطبيب عبد الرحمن الشهبندر، وأممَّ عين الفيجة.

اشتهر فارس بك بمواقفه الوطنية، حيث صعد إلى المنبر في الجامع الأموي في يوم الجمعة، وقال: "إن كانت فرنسا تدّعي أنها احتلت سوريا لحمايتنا نحن ـــ المسيحيين ــــ من المسلمين، فأنا كمسيحي من هذا المنبر أشهد أن لا إله إلا الله" ، فما كان من المصلين إلا أن حملوه على أكتافهم وخرجوا به بمظاهرةٍ جالت شوارع دمشق وهم يهتفون: "لا إله إلا الله". استرد فارس بك الحرية للشعب السوري في أحد اجتماعات مجلس الأمم المتحدة، حيث جلس على كرسي المندوب الفرنسي مدة 25 دقيقةً، فاستشاظ الفرنسي غضباً، وعند ما انتهت ال 25 دقيقةٍ؛ توجه فارس بك إلى المندوب الفرنسي قائلاً: "سعادة السفير: جلست على مقعدك 25 دقيقةً، فكدت تقتلني غضباً وحنقاً، وقد احتملت سوريا سفالة جنودكم 25 سنةً، وقد آن لها أن تستقل، فانتهت الجلسة يومها باستقلال سورية. استلم فارس بك وزارة الأوقاف، وحين خرجت بعض الأصوات المتشددة تعارض توليه المنصب كونه مسيحياً؛ خرج إليهم نائب الكتلة الإسلامية في المجلس آنذاك الشيخ الدمشقي عبد الحميد طباع قائلاً: "إننا نؤمن فارس بك الخوري على أوقافنا أكثر مما نؤمن أنفسنا".

تقلد فارس بك العديد من المناصب والوزارت، وكان أحد الآباء المؤسسين للدولة السورية، وممن صاغوا دستورها؛ أُطلِق اسمه على شارعٍ وسط دمشق، ونُشِر عنه العديد من الأبحاث والدراسات.

حارس القدس:

كما صدّرت سورية للعالم على مدى تاريخها السلام والمحبة، صدّرت المقاومين الذين حملوا السلاح لنصرة المظلوم على اختلاف معتقداتهم، كان أبرزهم المطران "هيلاريون كابوتشي" الحلبي الذي بدأ حياته ككاهنٍ عام 1947، ثم مديراً لمدرسة النهضة الوطنية في جبل لبنان. ترقى بمناصبه الكنسية حتى مرتبة مطران عام1965 ، وعُين نائباً بطريركياً في القدس.

عمل المطران "كابوتشي" خلال فترة حياته في القدس على المشاركة الفعلية في المقاومة، فكان ينقل الأسلحة إلى المقاومين في سيارته؛ الأمر الذي كشفته قوات الاحتلال الإسرائيلي عام 1974، وسُجن بعد محاكمته لمدة 12 عاماً إلا أن أُفرج عنه عام 1977 بطلب من بابا الفاتيكان، وأُبعد عن فلسطين، حيث أمضى حياته بعد ذلك في المنفى في روما حتى وفاته عام 2017.

شارك "حارس القدس" كما يُطلِق عليه شعوب المنطقة في أسطول الحرية الذي كان حمل الأمتعة والغداء لأهالي غزة المحاصرين على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي عام 2010. كرّمته كلٌ من السودان ومصر وليبيا والعراق وسورية والكويت بطابعٍ بريدٍ يحمل صورته، وأطلقت مدينة رام الله اسمه على أحد شوارعها، كما أنتجت المؤسسة العامة للإنتاج في سورية مسلسلاً درامياً يحكي سيرته عام 2020 بعنوان "حارس القدس" أخرجه: باسل الخطيب، وأدى دوره الفنان رشيد عساف.

شارك برأيك .. لتكتمل الصورة


آخر المقالات

استطلاعات الرأي

يجب ان تختار خيار قبل ارسال التصويت
هل تعتقد أن الوقت قد حان لبدء تطبيق الدفع الإلكتروني في سوريا؟
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني
النتائج
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني

الأكثر مشاهدة هذا الشهر