غير الشعارات.. حقيقةً أسأل: ماذا يوجد داخل صندوق الحكومة؟
حقيقة أسأل: لمَ كل هذا الاصرار من أعضاء الحكومة الجديدة على استخدام مصطلح "التفكير من خارج الصندوق"، هذا الشعار القديم الجديد، هل قلت شعار؟.. يبدو كذلك!.
أغرتني العبارة كثيراً -التفكير من خارج الصندوق- مصطلح مبهر!، بحثت في غوغل عن أصلها، جربت الذكاء الاصطناعي لأتعرف على فصلها، سألت "بتوع التنمية البشرية" عن صاحب الفضل الأول في استخدام هذا المصطلح، قرأت عدة مقالات حول الموضوع، قرأت مثلاً مقولة لأمريكي يدعى شارلز هولاند دويل، يقال إنه شغل منصب مفوض الولايات المتحدة للبراءات والعلامات التجارية، ويقال إن مقولته تصلح لأن تكون نموذجاً عن التفكير من داخل الصندوق، ويقال إن المقولة تعود لعام 1899 أي قبل قرن وربع من الآن، ومفادها: أن "كل شيء كان من الممكن اختراعه فقد تم اختراعه"، تخيلوا معي لو رضخ العالم لتسليم هذا الرجل برأيه؟، لكنا الآن في أحسن الأحوال نعيش في عصر القطارات البخارية كأحدث وسيلة نقل جماعي عابرة للقارات!، ولكانت الخيول والبغال والحمير على عرش وسائل الركوب الخاصة، على كل حال كان سيبدو عالماً نظيفاً.
تحمست للعنوان (رئيس الحكومة يطلب من الوزراء التفكير من خارج الصندوق لحل المشكلات التي يعاني منها المواطنون)، تلهفت للفقرة الأولى وتحديداً جملة "المواطن والحكومة في خندق واحد"
ثم ماذا بعد؟.. تدربت عن طريق اللعب على كيفية التفكير من خارج الصندوق، يا له من صندوق؟، إرث ثقيل من الخبرات، والتجارب، والمبادئ، والمشاعر، تخففت من كل ذلك، وضعت هذا الإرث في صندوق، أحكمت إغلاقه، وصرت على بعد خطوة واحدة تفصلني عن تجريب تلك العبارة الذهبية "التفكير من خارج الصندوق"، انتظرت أن تواجهني مشكلة ما "يا الله مشكلة جديدة حقيقية واحدة فقط"، للوهلة الأولى بدوت كشخص ليس لديه مشكلات يعيش حياة سهلة، أرقني هذا الشعور، أضجرني الانتظار!، ليلة أول أول أول أمس الثلاثاء لم استطع النوم، غالباً ما أعاني قبل النوم، قلت لنفسي وأنا أنظر للسقف: "هذه مشكلة.. إذاً علي أن أفتش عن حل جديد لها وليكن من خارج الصندوق"، تقلبت يمنة ويسرة، وسط إضاءة خافتة، وقع نظري على خيالات بضعة كتب على طاولة صغيرة مهملة في زاوية الغرفة، لا لن استعن بأي منها لأتغلب على أرقي كما كنت أفعل دوماً، أحتاج شيئ أكثر مللاً من عد الخراف وقراءة الكتب، أمسكت الجوال، تصفحت فيسبوك، قرأت بياناً رسمياً عن جلسة مجلس الوزراء الأسبوعية، تحمست للعنوان (رئيس الحكومة يطلب من الوزراء التفكير من خارج الصندوق لحل المشكلات التي يعاني منها المواطنون)، تلهفت للفقرة الأولى وتحديداً جملة "المواطن والحكومة في خندق واحد"، كنت أعتقد أنها تنطبق فقط على أعضاء الحكومة وأعضاء مجلس الشعب، هنا اطمأنيت، تثاءبت مرة أو مرتين، ثم استسلمت لنوم عميق في خندق الحكومة!.
ليلة أول أمس الخميس رفعت الحكومة أسعار معظم المشتقات النفطية، ليلة أمس الجمعة لم أنم في خندق الحكومة!
ليلة أول أول أمس الأربعاء، قررت أن أستزيد من الاطمئنان، قرأت بياناً جديداً، البيان يحمل عرضاً بدا مشوقاً لمجريات جلسة الثلاثاء، العرض سيكشف عن مداولات، المداولات ستفضي إلى رفع سعر المازوت الزراعي!، لا بأس طالما أني في خندق الحكومة حتماً سأنام بمجرد أن أصل إلى الفقرة التي ستوضح الهدف من هذه الرفع، كلام عن كفاءة الانفاق، كلام عن تقليص العجز، كلام عن إمكانية زيادة الرواتب، كلام عن فساد الدعم وأضراره، كلام كثير ممغمغ لا يخرج عن كونه نسخة مكررة عن كلام حكومات سابقة في هذا الشأن، لا جديد من خارج الصندوق!.. نمت على قلق.
ليلة أول أمس الخميس رفعت الحكومة أسعار معظم المشتقات النفطية، ليلة أمس الجمعة لم أنم في خندق الحكومة!، أغلب الظن أن الحكومة ستزيد رواتب موظفيها قريباً دون أن يكون لهذه الزيادة أثر في معيشتهم، أغلب الظن أنها ستبقي على شيء من الدعم لبعض المواد، لتعلق عليه شماعة الهدر والفساد، وتقلصه كلما دعت الحاجة!.
ليلة أمس لم أنم في خندق الحكومة، وقرأت في بيانها عن قيمة الاستثمارات الخاصة خلال السنة الحالية (السنة الأخيرة من عمر حكومة عرنوس السابقة) التي تتفوق على قيمة موازنة السنة القادمة (أول موازنة في عهد حكومة الجلالي)، قرأت اعترافاً مبطناً بأن كل شيء يمكن تجريبه على المستوى الاقتصادي في العقد الأخير قد تم تجريبه بالفعل من ثلاث حكومات متعاقبة، وشعرت أن الحكومة الحالية مثلي تماماً، تبحث عن مشكلة بسيطة تشبه مشكلتي "قبل النوم" لتأتي بحل لها من خارج الصندوق، كالحل الذي ابتدعته بقراءة بياناتها وتصريحات أعضاءها!، ليتحول مصطلح "التفكير من خارج الصندوق" إلى شعار يضاف إلى جملة الشعارات المتراكمة في صندوق الحكومة.