"تـأمـيـم العــقل الســــوري"

"تـأمـيـم العــقل الســــوري"

كتب الدكتور عصام التكروري:

في غضون السبعة أعوام التي تلت أربعمائة عام من الاحتلال العثماني وستة وعشرون عاما من الاحتلال الفرنسي شهدت سوريا نهضة اقتصادية مذهلة إذ أصبحت في عام 1953 الاقتصاد رقم ثلاثون على مستوى العالم، وفي ذلك العام ـ و للمرة الأولى و الأخيرة ـ كان الميزان الاقتصادي السوري متوازنا حيث عادلت فيه الصادرات الواردات و ما كان ذلك ليتحقق لولا التحاق العقول السورية التي درست بالخارج بركب عملية التنمية التي بدأت بُعيد الجلاء ـ ضمن خطة استقطاب العقول التي كُلفت بها البعثات الدبلوماسية بشكل خاص ـ وأثمرت نهضة اقتصادية خلال مدة قياسية، هذه النهضة ما لبثت أن اصطدمت بالتأميم الذي نجم عنه هجرة رؤوس الأموال السورية و العقول الاقتصادية السورية إلى كل أصقاع الأرض، تبعه الإصلاح الزراعي الذي أدى إلى تفتيت الملكيات الزراعية بحيث بات من الصعوبة بمكان الحديث عن اقتصاد متين يقوم على الزراعة ، بعدها دخل الاقتصاد السوري مرحلة التجريب التي ستطول و تطول.

لاشك أن كل تجربة اقتصادية محكومة بظروفها إذ من حق الأمم جميعها أن تعتنق من الإيديولوجيات ما تراه ضمانة لمستقبلها، لكن أمم الأرض قاطبة تعيد النظر بتجاربها لتستخلص منها الدروس وتصحح المسار ضمن ما يُعرف بالغرب باسم واجب الذاكرة Le devoir de mémoire هو مصطلح يُعبر عن الالتزام الأخلاقي بإعادة النظر بحدث تاريخي اتضح لاحقا أن له إبعادا مأساوية وذلك من أجل ضمان عدم تكرار حدث من هذا النوع مرة أخرى.

واجب الذاكرة هذا مردّه إلى أنَّ الإيديولوجيات تشيخ وتُصاب بالخرف لأنّها نتاج الفكر البشري ضمن فترة زمنية محددة ، و الزمن لا يتوقف إلى الأبد عند إيديولوجيا واحدة إلى في عقول أصابها الخرف، فتجربة التأميم التي حدثت في ستينيات القرن الماضي لم تحظَ حتى تاريخه بفرصة للتأمل بها جيدا بغية تجاوز أثارها السلبية و تعزيز نتائجها الايجابية.

ما دفعني للحديث عن تجربة التأميم بشكله الاقتصادي هو أنني ألحظ ما يشبه تأميماً للعقول السورية على صعيد التعليم عموما، والتعليم العالي خصوصاً إذ بعد أن تمّ رفع سن التقاعد لأساتذة الجامعة إلى الخامسة والسبعين، تمّ ـ في الوقت نفسه ـ استبعادهم جميعا من الحوافز الواردة في النظام النموذجي للتحفيز الوظيفي للعاملين في الجهات العامة دون أن تنتبه اللجنة التي أعدت المرسوم ـ غالبيتها من الأساتذة الجامعيين ـ إلى الحقائق التي يعرفها جميع طلاب الجامعة عن ظروف عمل أساتذتهم ـ في كلية الحقوق على أقل تقدير ـ و التي أوجزها بما يلي:

1: لا يتقاضى الأستاذ الجامعي أجرا على الساعات التي تُفرض عليه فوق نصابه فرضاً، هذه الساعات تتراوح ما بين 6 إلى 12 ساعة أسبوعيا.

2: يُجبر الأستاذ الجامعي جبراً على التدريس مجاناً بماجستير التأهيل و التخصص في كلية الحقوق ولا يتقاضى قرشا واحدا من عائدات الرسوم التي يدفعها الطلبة.

3: يجبر الأستاذ الجامعي على تصحيح أول ألف ورقة من الأوراق الامتحانية مجانا.

4: يتقاضى الأستاذ الجامعي مبلغ و قدره 45 ألف ل.س بعد سنتين أو ثلاث سنوات من إشرافه على رسالة الماجستير (بمعدل 1500 ل.س شهريا) و 90 ألف ل.س بعد ثلاث إلى خمس سنوات من إشرافه على رسالة الدكتوراه (1700 ل.س شهريا)

5: يتقاضى الأستاذ الجامعي سنويا مبلغ لا يتجاوز 550 ألف ل.س عن تدريس سنة كاملة في التعليم المفتوح.

6: معدل راتب الأستاذ الجامعي الشهري هو 220 ألف ليرة سورية بينما تصل كلفة وصوله إلى مكان التدريس إلى 300 ليرة سورية إذا استخدم سيارته ببنزين مدعوم.

7: نسبة الاقتطاعات من وراتب الدكاترة العاملين في الجامعات الخاصة تصل إلى 31% من الراتب الشهري أي 31 ألف ل.س عن كل 100 ألف ل.س علما أنه لا يوجد تاجر على وجه الخليقة يدفع هذه النسبة من الضرائب إلا الأستاذ الجامعي السوري صاحب الراتب الأسطوري البالغ 50 دولار شهري.

طابع السخرة لعمل الأستاذ الجامعي بات فاقعا، و التشريعات التي تنظمه ( قوانين ، قرارات، أنظمة ...) تتصف بسمة أساسية واحدة وهي أنها تنتهك الدستور السوري كونها تتعارض مع أحكام المواد 13ـ 18ـ19ـ25 ـ26 ـ 29 ـ 31 ـ 33 ـ 40 منه، و النتيجة المباشرة لذلك ضياع المليارات التي أنفقتها الدولة السورية على تثمير عقول هاجرت أو بقيت وتقطعت فيها سبل تطوير ذاتها لمواكبة متطلبات العلم لصالح تأمين لقمة رغيف أخشى أنها ستصبح ـ إذا استمرت الأمور على ما عليه اليوم ـ خالية من العفة و الكرامة.

كان أمام اللجنة التي أؤتمنت على إعداد المرسوم المتضمن النظام النموذجي للتحفيز الوظيفي للعاملين في الجهات العامة فرصة تاريخية لتصحيح مسار نظام التعليم العالي في سوريا لو أنها قامت بما يقضي به واجب الذاكرة Le devoir de mémoire إذ لا قيامة لسوريا إلا بقيامة العلم و لنتذكر فقط النهضة شبه الشاملة التي عرفتها البلاد ما بين أعوام 2000 و 2010 حين كان معظم دكاترة الجامعة يرفضون العروض السخية التي تنهمر عليهم من الخارج بحكم كفاءتهم و بحكم التصنيف المعقول للجامعات السورية على المستوى العربي و العالمي... أما اليوم فقد بات من الصعب على دكتور الجامعة أن يُقنع طلابه بأنَّ " العلم نور" فالجميع يعرف أن أجر محاضرته لا يشتري " لمبة".

مقالات أخرى للكاتب

شارك برأيك .. لتكتمل الصورة


استطلاعات الرأي

يجب ان تختار خيار قبل ارسال التصويت
هل تعتقد أن الوقت قد حان لبدء تطبيق الدفع الإلكتروني في سوريا؟
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني
النتائج
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني