"من مذكَّرات مدرِّسة (10)" من قال أنَّ الزمن لا يعود إلى الوراء؟

"من مذكَّرات مدرِّسة (10)" من قال أنَّ الزمن لا يعود إلى الوراء؟

ماري عربش
ها أنا، وبعد طول انتظار أتمكّن من قطع بطاقات لقطار ينتزعني من المحطة التي أتوقّف عندها ليعود بي إلى الزمن البعيد البعيد.

المحطَّة الأولى
كانت المحطة الأولى في لبنان لكنّها أعادتني إلى أيام الطفولة البريئة الرخيّة المرحة.
إلى بيتنا الكبير في يبرود حيث قناطره الحجرية تقف بشموخ في نهاية الممرّ الفاصل بين الجنينتين, لتحمل نظيراتها في الطابق العلوي.
التقيت بمن كانت طفلةً في العاشرة من عمرها عندما بدأت زيارتها لبيت جدها المجاورين لنا, قادمةً مع والديها من الأرجنتين
كنّا ندعوها (سليمى الأرجنتينية الحلوة)
كانت تمضي نهاراتها عندنا.
وها نحن معاً نتراكض في أرجاء البيت, نحاول تسلّق أشجاره المثمرة نقطف أزهاره المتفتحة،
نجلس على الدرج الخشبي المؤدي إلى غرفةٍ منفردةٍ في الطابق الثالث لنسمي الجبال المحيطة بالبلدة
هذا هو جبل العريض وهذا هو مرمرون وهذه تلة الأوز
نغني نرقص نضحك, نصمّ آذاننا عن سماع نداء الأهل لنا، نختبئ وراء ( كناديج القمح والبرغل)
نطوف الحارة نتراشق مياه نهر ( التوتة) نتعلق بأغصان الصفصاف ( المستحي) المتدلِّية حتى رؤوسنا الصغيرة.
أنّى لعشرة أيام أمضيتها في بيت سليمى التي باتت فنّانةً مبدعةً تضيئ لوحاتها جدران بيتها الواسع الأنيق، أنّى لهذه الأيام المعدودة أن تحمل أحداث خمسين عاماً من العمر ولّت وانقضت ؟؟!!
ها نحن عدنا من ذلك الماضي البعيد لأرى سليمى تبكي وتضحك حزناً وفرحاً.
آلمني ما سمعت منها,
وكأنّ الحياة تحمل من المآسي أكثر من الأفراح....
في هذه المحطة التقيت بعض أفراد أسرتي وقد جاؤوا بدفء البيت والعائلة.
وسُعدت بهم كما أسعدنا معاً سليمى وأنا لقاءَ صديقٍ وفيّ غالٍ تحمَّل عبء السفر ليمضي معنا سهرة حملت إلينا الوطن بكل ما فيه.

المحطَّة الثانية
حاملة كلّ فرح الطفولة وغصّةً جارحةً من أُمِّ الواقع تابعت رحلتي لأصل المحطة الثانية.
هنا حيث التقيت رفيقة العمر وشقيقة الروح تلك التي ما غابت عن بالي أبداً.
معاً عدنا إلى عمر المراهقة والصبا،
عدنا إلى بيتينا القديمين حيث كانت تطول جلساتنا ونحن نفلسف الحياة بكلّ جديّة وحزم, كنّا نقرأ الكتب الكثيرة ونكرّر قصص مدرسة الأسقفية المختلطة حيث درسنا،
رحلنا مع ذكريات انتقالنا إلى العاصمة لإتمام الثانوية, توقفنا كثيراً عند اكتشافاتنا لمظاهر العاصمة الكبيرة، تحدّثنا بفخر عن تحدياتنا لبناتها وتفوقنا عليهن بالدراسة.
وسريعاً يعبر شريط الحياة ليتوقف بِنَا أمام أحزانٍ لا حدّ لعمقها, خفنا التوقف عندها, قصدنا عن عمدٍ عدم لمسها, لكنها فاضت دمعاً محبوساً في عيوننا وكانت تنهيدةً عميقة لم نجد لها تسمية سوى (انزلاق الوطن)
قليلة كانت الأيام التي جمعتني برفيقة عمري سميرة, في بيت ابنتها الرائعة الإنسانة الواعية الصلبة الرقيقة الحكيمة الودودة المحبّة
في بيتها التقيت بعض أفراد العائلة التي طالما أحببتها وعشت معها

المحطَّة الثالثة
ومن المحطة الثانية في ألمانيا، هامبورغ
توجّهت الى المحطَّة الثالثة
حيث طالعتني لافتة كبيرة مضاءة، كلماتها من نور متوهج (هنا الله موجود)
لم أفقه لها معنىً إِلَّا عندما التقيت طلابي...
أجل طلّابي الذين درّستهم الثانوية قبل ثلاثين عاماً
شعرت بسمو روحي إلى ذلك البعد اللامحدود البعد الإلهي الإنساني الأموميّ ...
شباباً كانوا, شباباً لا أفق يحدّ تطلعاتهم وطموحاتهم بالوصول إلى مستقبل يخططون له بأحلام الشباب التي لا تعرف المستحيل, يرون الدروب واسعة والأهداف سهلة المنال .. وها أنا التقيهم رجالاً أشدّاء يواجهون صعوبات الحياة في غربتهم بعزيمة لا تعرف التهاون ولا تستسلم لليأس
التقيتهم مع زوجاتهم وأولادهم إلى قلبي ضممتهم ..
معاً استعدنا كلّ تفاصيل الحصص الدرسيّة ..
استعدت ألق التدريس وروعة الأخذ ..
يا الهي... أكاد لا أصدِّق تذكّرهم لكل مواقفي معهم في الصفّ ...
ثلاثون عاماً مرَّت
وها نحن اليوم نتمشّى عند صخور بحر البلطيق التي يضربها الموج بعنفٍ موقظاً في نفوسنا كلّ وهج الحبّ الإلهي ..
لماذا انهمرت دموعي وأنا أرى عيونهم تلمع مستعيدةً شريط الثانوية بطاقته وحيويته (وعفرتته المحبّبة)
وتدفُّق المشاعر المتناقضة ما بين الحلم والواقع ..
ما هذه النشوة التي تملّكتني وأنا أراهم يسيرون ويسردون القصص والحكايات ويستمعون مصغين إلى كل ما أبوح به وكأنّهم ما زالوا على مقاعد الدراسة......
لماذا شعرت بأني أستطيع التحليق ؟
هناك عند أعلى سلّم المنارة فتحت ذراعيًّ إلى آخر المستطاع لأرى السماء وكأنّي تكشفت وجودها للتو ..
لم أرها بذلك البعد وهاك الاتساع والامتداد من قبل ..
ولمّا سألني عمَّار : آنسة ماذا تشعرين؟
أسرعت لأقول : أشعر بأنّ الله هنا
ثلاثون عاماً يا فادي وَيَا عمَّار وما زلتما تحتفظان بكلّ ذلك الإخلاص!
إنّ نشوة لقائي بكما يا غاليين أعادت إلى نفسي كلّ زخم المعنى الّذي آمنت به معتقداً مقدّساً في حياتي .. إنّه الحبّ الّذي لايعرف للمكان أرضاً ولا للزمان بداية ولا نهاية
غمرتماني بروعة حضوركما ... وكم أنا ممتنّة لحسن استقبالك وحفاوتك بِنَا في بيتك فادي وكم سعدت بلقاء ولديك الحبيبين وزوجتك العزيزة ..
كم أنا ممتنّة لكلّ ما فعلته عمَّار .. لكل كلمة قلتها لي ولآخر مشوار في برلين ..

ومن المحطّة الثالثة في روستوك ألمانيا
توجّهت إلى بلجيكا حيث التقيت فلذة كبدي ديمة مع زوجها وطفليها اللذين لم يبرحا قلبي
هناك كانت مراسيم العمادة للطفلة الحلوة تاتيانا ابنة الغالية رولا ..
عدت إلى ألمانيا حيث التقيت ابن أُختي الذي وصلها لاجئاً عن طريق البحر من تركيا إلى اليونان تلك الرحلات الشاقة المؤلمة
فرحت لالتمام شمل عائلته بعد ثلاث سنوات على وصوله
وهنا وافانا أخي الحبيب مع زوجته الرائعة حيث قدما من موسكو ليومين فقط
لقد انتعش قلبي برؤية الجميع هنا

المحطَّة الرابعة
وكانت المحطة الرابعة
هناك في ديجون فرنسا
حيث التقيت ذلك الصديق الطيب الودود
المثقف .. هناك حيث مكتبته الثرّية الغنيّة تنعكس في ملامح شخصيته بكل أبعادها
الحكمة الصبر الرؤية البعيدة ..
هناك حيث حديقته المزدهرة بالشجر المثمر والورد المذهل وكلّ متطلبات التبُّولة من خضروات
حديقته الجميلة تعكس جمال روحه وصفاءها ..
خمسون عاماً وهو بعيدٌ عن وطنه الأم, وكلّ هؤلاء الأصدقاء الأوفياء من حوله لم يستطيعوا محو صورة الأهل والأحباب في بلدته يبرود من قلبه، فالحديث عنها يطغى على كلّ حديث.
رائع أنت أيّها الصديق الصدوق المحترم ذو الحضور المميّز، الأستاذ سعد

المحطَّة الأخيرة
وأمّا آخر المحطات
فكانت باريس
هذه المدينة المذهلة بسحرها وروعتها وعمق تراثها الحضاري
هنا التقيت صديقة وفيّة ابتعدت عنها لعدة سنوات
كم أنا ممتنّةٌ لها ولابنها الذي أعطاني من وقته الثمين بضع ساعات ليصحبنا إلى أهم المعالم الحضارية هناك
وفِي باريس أيضاً التقيت بابن بلدتي وحارتي لقد استقبلني في بيته حيث شعرت بحميمية العلاقة السهلة معه ومع زوجته الصادقة الطيبة الرائعة ..
وكان لي لقاءٌ مع صديق وزميل عشنا معاً عدة لقاءات في يبرودنا تركت في قلبي أثراً عميقاً .. وها أنا أستعيد وهجه في أمسية رائعة هنا على رصيف أحد المطاعم الفرنسيّة
وختامها مسكٌ
حيث التقيت ذلك الطبيب الذي عرفته فتىً مميّزاً بذكائه وطموحه والتزامه ومرحه وحبه للحياة
كان لقاءً افتقدته طويلاً ..
وها أنا أعيد قراءة ما كتبت لأرى بأني لم أدرك شيئاً عن المعالم الحضارية المذهلة التي مررت بها خلال رحلتي .. من كنائس ومتاحف وجامعات
ذلك لأنّ لقاء الأشخاص هو الذي كان يستحوذ على اهتمامي كلّه ..
وأجدني في نهاية المطاف أعود لأطرح السؤال المعهود المكرّر
السؤال المرّ المؤلم القاسي
حتّام ينزف الوطن طاقاته الشبابيَّة؟
لماذا يعيش كلّ هؤلاء الذين التقيتهم غرباءَ فوق أرضٍ لا جذور لهم فيها؟
لقد سمعت منهم ما يعرفه الكلّ من معاناتهم في الوطن

لم أذكر شيئاً عن المعالم...

شارك برأيك .. لتكتمل الصورة


استطلاعات الرأي

يجب ان تختار خيار قبل ارسال التصويت
هل تعتقد أن الوقت قد حان لبدء تطبيق الدفع الإلكتروني في سوريا؟
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني
النتائج
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني

الأكثر مشاهدة هذا الشهر