المنتج الرقمي السوري .... نتقدم للخلف

المنتج الرقمي السوري .... نتقدم للخلف

بدا لافتاً خلال اليومين الأخيرين، نوعية ردود الأفعال التي أطلقها كثير من المهتمين والمتخصصين في مجال تكنولوجيا المعلومات والمتابعين لشؤون المحتوى الرقمي والمنتج الرقمي السوري على الخبر الذي أعلنته الهيئة الوطنية لخدمات الشبكة حول إطلاقها لخدمة البريد الإلكتروني السوري عبر الموقع nmail.sy، ولعل أكثر مايسترعي الإنتباه، كمّ التهكم والسخرية الذي تضمنته تعليقاتهم ومنشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي حول هذا الخبر. 

وإذا عدنا إلى عبارات التهكم والسخرية الت ي وردت، فإننا نجدها تتمحور حول نقاط ثلاث، النقطة الأولى هي نقطة انعدام الثقة بالسوية التقنية لهذا المنتج أو الجهة المشغلة له أو البنية التحتية المستخدمة في تشغيله، النقطة الثانية تركزت حول فكرة الدعم العالمي في ظل العقوبات والحصار الجائر المفروض على سوريا لناحية تقبل مزودات خدمة البريد الإلكتروني العالمية على استقبال رسائل واردة من هذا النطاق الوطني الحكومي، أما النقطة الثالثة فتمحورت حول البعد الأمني وضمانات الخصوصية التي يتطلبها مستخدموا هذا المزود لكي يثقوا بإجراء مراسلاتهم عبر قناة تضع كافة الأجهزة الأمنية في البلد مجاهر مراقبتها عليها وعلى كل حرف أو كلمة تتبادل عبرها.

للحقيقة والأمانة فإن عبارات التهكم والسخرية كانت قاسية وجارحة في بعض الأحيان، وربما خرج بعضها عن الأدب، كما خرج -كالعادة- بعضها الآخر عن حدود العقلانية والمقاربة العلمية والمنطقية، ولكن للحقيقة والأمانة أيضاً، فإن عبارات التهكم والسخرية لها مايبررها وخاصة لناحية موضوع الثقة، فبما يخص موضوع الثقة بالمنتج أو الجهة المشغلة أو البنية التحتية، فالمنتج بالمعنى التقني هو منتج عادي ولايعد إطلاقه فتحاً أو إنجازاً من الناحية التقنية (وخاصة أن هكذا منتجات لا تبنى من الصفر وإنما تستند إلى أدوات برمجية جاهزة وتتضمن 90% من الحل التقني المطلوب، ولكن تقديم منتج مستقر وفاعل هو الأهم، وهذا يتطلب بنية تحتية ونموذجاً وسياسة تشغيلية ليست بالسهلة والهيئة الوطنية لخدمات الشبكة كجهة حكومية تعمل بأسلوب وطريقة وعقلية تقليدية جعلت أغلب من يتعامل معها يكفر بها وبسوية خدماتها وتعقيد وبطء إجراءاتها وموثوقية بنيتها التحتية واستقرارها. أما فيما يتعلق بالدعم العالمي، فكل من جازف أو أرغم على استخدام النطاق العلوي السوري sy يعلم حجم المصاعب التي يواجهها أي منتج يستخدم هذا النطاق في أي تعامل مع جهات خارجية أو مواقع عالمية على الشبكة أو أي استثمار من أي نوع لتقنية أو منتجات تقع تحت حظر العقوبات الأمركية والأوربية. أما أمنياً، فإن ماء في فمي يمنعني من الحديث بما أعلم – أو حتى بما لا أعلم وإنما يمكن أن أستشف وأتخيل من حجم ما أعلم- في حين أن أغلب من علقوا على الأمر لا يعلمون وإنما فقط يملكون حالة عدائية مسبقة وجاهزة ومبررة تقودهم إلى وضع هكذا تصورات، علماً أنني كثيراً ما أسخر من هكذا مخاوف على الخصوصية وأمن المعلومات الشخصية، إذ أننا وبكل تأكيد لا نستخدم منتجاً إلكترونياً على الإطلاق إلا وينتهكنا في استخدامنا له حتى العظم كل أجهزة العالم الأمنية والمخابراتية الوطنية منها والعابرة للبلدان والقارات على حد سواء.

إن أكثر ما يؤلمني في كل ماسبق هو انعدام الثقة، وهذا الأمر لا يقتصر فقط على المنتج الرقمي الوطني المقدم من قبل الهيئة، وإنما يتجاوزها ليعم كل المنتجات من هذا النوع سواء التي تتم بمبادرات من جهات حكومية أخرى أو حتى من قبل رواد أعمال أو مستثمرين من القطاع الخاص، إذ كثيراً ماقوبلت مشاريع واعدة بنفس الأسلوب من التجاهل والتهكم والسخرية والتشكيك –وقد كانت لي تجربة مريرة امتدت لسنوات مع محرك البحث السوري شمرا لم تختلف ردود الأفعال فيها عن ردود الأفعال على المشروع الحالي-، وما يؤلمني أيضاً أن مؤسسة وطنية مهمة –كالهيئة- لا تعبأ بهذه الثقة المنعدمة ولا يؤرقها أن يكون المتخصصون والتقنيون في طليعة الأشخاص الذين ينظرون إلى مشاريعها بهذا المستودى المتدني من الثقة. أما لماذا يؤلمني، فهذا مرده إلى أن أول عائق علينا تجاوزه كي نصل إلى حقيقة أن لدينا صناعة تنتج منتجاً رقمياً وطنياً حقيقياً هو بناء الثقة لدى الطرف المتلقي، وأول شعور يجب أن ينتاب هذا المتلقي هو الاعتزاز بوجود منتج رقمي وطني يشكل بالنسبة له بديلاً حقيقياً عن منتجات مشبوهة الأهداف والارتباطات.

حسناً، مالذي تفعله الهيئة –على سبيل المثال- ومن خلفها الهيئة الناظمة للاتصالات ووزارة الاتصالات والتقانة لبناء مثل هذه الثقة؟. في الحقيقة أن كثيراً من العمل يتم، ولكنه في غالبه إما لا يدفع لتغيير الصورة، أو أنه على أرض الواقع يقود إلى هدف معكوس فيعزز ويفاقم من مأزق انعدام الثقة، أذكر على سبيل المثال خطوة أو مشروع الترخيص للتطبيقات والبرمجيات الوطنية الراغبة بالعمل ضمن الشبكة الوطنية، إذ أدى هذا المشروع الوليد منذ أيامه الأولى (وعمره لم يجاوز بعد الأشهر الستة) إلى دفن أي أمل ببناء الثقة، هذا عدا عن أنه سيجر نتائج كارثية على واقع صناعة المنتج الرقمي الوطني سواء لجهة إضعاف أي تحفيز لدى المستثمرين الراغبين بالاستثمار في هذا المجال، أو لجهة دفع المبرمجين والمتخصصين للعمل في مشاريع غير وطنية هرباً من تعقيدات ومشاكل العمل في مشروع وطني، وأنا أدعو هنا الهيئة الوطنية لخدمات الشبكة (وكل المؤسسات والجهات المعنية بالمشروع أو المشتركة فيه) إلى مراجعته، ومراجعة الإجراءات المرتبطة به وضخ المزيد من الدم فيه بحيث يصبح أقل تعقيداً وأكثر رشاقة وأكثر قبولاً وأعلى ديناميكية (ولي عودة إلى هذا الموضوع في حديث لاحق فلي معه جرح مازال نازفاً منذ خمسة أشهر).

باعتباري لم أكن يوماً من مؤيدي رسم الصور القاتمة، فأنا أؤكد أن عملاً كثيراً يحصل، وأن هناك مشاريع كبيرة تنطلق أو يخطط لإطلاقها، كما أؤكد أننا قادرون ونستطيع النهوض بهذه الصناعة، وقادرون على بناء هوية فريدة وخاصة للمنتج الوطني الرقمي لكنني أدعو كل معني أو مهتم أو حالم بامتلاكنا مثل هذه الهوية، أن يركز في واحدة  من المفارقات شديدة الإيلام التي حصلت الأسبوع الماضي (وتزامنت مع إطلاق مشروع البريد الوطني) أن فريقاً من اليافعين السوريين قد فاز بالمركز الأول على مستوى العالم في إحدى مسابقات الذكاء الصنعي العالمية، وفي نفس الأسبوع قامت هيئة عالمية بإصدار تصنيف لدول العالم من حيث جاهزيتها للاستثمار في مجال تكنولوجيا الذكاء الصنعي، وجاءت سوريا في المرتبة ماقبل الأخيرة

إننا قادرون ولكن يجب أن نبدأ بالخطوة الأولى والأهم وهي ..... بناء الثقة.

شارك برأيك .. لتكتمل الصورة


استطلاعات الرأي

يجب ان تختار خيار قبل ارسال التصويت
هل تعتقد أن الوقت قد حان لبدء تطبيق الدفع الإلكتروني في سوريا؟
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني
النتائج
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني