العقوبات الاقتصادية بين الثمانينات و«قيصر»: حكومات تعاقبت على الفشل الاقتصادي

العقوبات الاقتصادية بين الثمانينات و«قيصر»: حكومات تعاقبت على الفشل الاقتصادي

عانى الاقتصاد السوري كثيراً من وطأة العقوبات الاقتصادية الخارجية منذ فترة الثمانينات وإلى اليوم، لكن منذ بدء الحديث عن تنفيذ قانون »قيصر « ذهبت الترجيحات بزيادة المعاناة السورية لاختلاف الأوضاع مع استمرار الحرب على سورية، حيث اعتادت الجهات المعنية على رمي كل فشل اقتصادي على هذه العقوبات، وفي ظل غياب التقديرات الرسمية بحجم الضرر الذي لحق بالاقتصاد السوري الكلي من العقوبات المستمرة خلال العقود الأربعة الماضية، عدا عن رصد وبحث قدمه المركز السوري لبحوث السياسات عام 2013 الذي قدر من خلاله الباحثون أن الخسائر الاقتصادية الناجمة عن العقوبات الخارجية أكثر من % 28 من خسائر الناتج المحلي الإجمالي، وبلغت تقديرات الناتج المحلي 60 مليار دولار 2010 ، وانخفضت إلى 30 مليار دولار 2017

 مابين حصارين
 لا تزال فئة كبيرة من الشعب السوري تتذكر تماماً ما حدث خلال فترة الثمانينات، عندما قامت الولايات المتحدة بفرض حصار اقتصادي على سورية وكانت طوابير من الناس تقف للحصول على علبة مناديل، أو علبة حليب للأطفال، أو علبة سمن صغيرة، توزع بشكل مدروس يضمن عدم احتكارها من قبل تجارة الجملة، ويضمن وصولها إلى أكبر عدد من العائلات، التي كانت تقضي شهراً كاملًا على علبة واحدة من هذه السلع، وتنسى الكثير من الحاجات اليومية الأساسية بسبب الحصار، حتى أصحاب الحرف المهنية عانوا. في المقابل أفرزت هذه العقوبات طريقة (صناعية) للتعامل مع هذا الحصار حيث نشأت في حارات الأرمن بحلب، وانتشرت بعد ذلك في دمشق وغيرها فقد كان الصناع المهرة يصنعون قطع غيار تكاد تماثل القطع الأجنبية، وهذا أوجد حالة من الاعتماد على النفس. ومع إعادة فرض العقوبات الأمريكية على سورية بشكل جديد تحت مسمى » قيصر « التي لم تختلف كثيراً عن سابقتها، حيث كان الوضع الاقتصادي السوري مختلفاً على جميع الأصعدة وكان هناك تطور وانفتاح رغم حرب التسع سنوات حسب رأي الكثيرين.
 وللوقوف أكثر على تفاصيل الموضوع أجرينا حوراً مطولًا مع عدد من أهل الاختصاص الاقتصادي بالواقع السوري للحديث عن الفارق بين الفترتين.
 
 الخليل: شل حركة الاستيراد والتصدير
 وزير الاقتصاد سامر الخليل أكد أن هناك اكتفاء ذاتي، لجهة الاعتماد على الزراعة والصناعة، لكن الحرب الاقتصادية على سورية اشتدت حدتها، وخاصة بعد صدور ما يسمى »قانون قيصر « فالحرب على الليرة السورية واضحة، الأمر الذي شلّ حركة الاستيراد والتصدير والتحويلات، ووصلت أجور التحويل إلى % 40 من قيمة البوليصة، إضافة إلى نفقات الشحن، ما أدى إلى تغير بالوضع الاقتصادي، وبالتالي ارتفاع سعر الصرف الذي أثر على كل مناحي الحياة في سورية.
 شهدا: واجهنا عقوبات الثمانينات بنمط تفكير مختلف يجد الحلول
 الخبير الاقتصادي عامر الياس شهدا الذي عاصر بعضاً من فترة الثمانيات تحدث باستفاضة عن الاختلاف بين الفترتين وكيف واجهت الجهات المعنية العقوبات للتخفيف من آثارها ويقول: يختلف الوضع بشكل كبير بين العقوبات الماضية واليوم، ففي تلك الفترة لم يكن لدى سورية صناعات ولا قانون استثمار حتى الإمكانيات كانت محدودة، حيث كانت البلد في طور إنشاء البنى التحتية والنهوض الاقتصادي الذي وقفت العقوبات في وجهه، الأمر الذي دفع بها إلى طرح شعار »الاعتماد على الذات، فكان ناجحاً وسعت معه سورية لتشكيل احتياطي من القطع الأجنبي ولكنه كان ضعيفاً جداً.
 مضيفاً أنه في تلك الفترة كان الفريق الاقتصادي يمتلك نمط تفكير متطور أكثر وكان يطرح حلولًا ولديه استراتيجيات ورؤية، بالتالي على الرغم من صعوبة العقوبات، إلا أنه كان هناك تحديد لهوية الاقتصاد السوري التي تتركز على الاعتماد على الزراعة والصناعة المحلية، في حين كانت المعامل والبنوك محصورة في القطاع العام ولم يكن لدينا معامل للأدوية أو للمحارم أو الزيوت أو السمون، لكن القرارات الاقتصادية التي كانت تصدر ساعدت على التخفيف من وطأة العقوبات والخروج من كثير من المآزق الاقتصادية مثل ربط الاستيراد بالتصدير التي ساهمت بتصدير الكثير من المنتجات الزراعية التي وفرت بدورها كميات هائلة من القطع الأجنبي، فأصبح ناتج التصدير يمول الاستيراد، بالإضافة إلى أن القرب من الحدود اللبنانية كان له أثر مفيد ومخفف فكنا نستطيع تأمين الكثير من المواد مثل الأدوية والمصول واللقاحات.
 وتندرج أهمية طرح شعار »نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع « بنجاح الخطط والاستراتيجيات الاقتصادية والنقدية، بالتالي لم تتأثر القوة الشرائية لليرة السورية وتم الحفاظ عليها ولم يحدث تضخم مثلما حدث في الزمن الحاضر.
 ”قيصر « : سياسات اقتصادية فاشلة وتفضيل للمصالح الشخصية
 يقول شهدا: « منذ عام 2010 وإلى اليوم مرت على سورية عقوبات اقتصادية كثيرة لكن الحالية كانت الأقسى، كان الأسوأ منها عدم وجود عقول قادرة على إيجاد حلول أو بدائل، مثلما حصل عام 2012 عندما تم طرح بيع القطع الأجنبي وما تلاه حتى عام 2018 وما صادف الليرة السورية من اهتزازات كلها دليل ضعف وعدم وجود خبرات قادرة على وضع سياسات نقدية تحافظ على القوة الشرائية لليرة، حتى مع تبدل الوزراء لم تختلف العقلية لذا على ما يبدو هناك أشخاص مستمرون بالتعامل بدوغماتية وبانفصال كامل بين المجتمع والحكومة“.
 ويتابع شهدا الحديث عن العقوبات الحالية » قيصر « التي كان التهويل لها إعلامياً أكبر بكثير من تأثيرها، فهي منفذة من عام 2016 بأشكال مختلفة، وعن هذه الفترة يقول: منذ بدء الحرب على سورية لم يكن لدينا تعريف للهوية الاقتصادية وافتقدنا للرؤية والإستراتيجية تناسب حالة الرخاء وليس الحرب، حيث ارتكبت الحكومات المتعاقبة على سورية منذ عام 2010 حتى اليوم الكثير من الأخطاء مع إهمال كبير للسياسات النقدية، افتقرت لسياسات محكمة دفع ثمنها المواطن السوري بشكل كبير، خاصة تلك التي اتخذت قبل بدء الحرب بفترة قصيرة فيما يخص الزراعة والثروة الحيوانية عبر تقليص المساحات الزراعية التي أثرت بدورها على الإنتاج وعلى بعض الصناعات التحويلية. والأكثر خطورة أن أهم وأكبر استثمارات القرن الواحد والعشرين لدينا لم تكن تعمل على أساس وطني. بل كان معظمها يتوجه فقط لزيادة رأس ماله وأرباحه على حساب الوطن والمواطن، عن طريق فروقات سعر القطع أو عن طريق تهريب المنتج، حتى القطاع الخاص استغل عدم وجود الخبرات في الجهات الحكومية التي تسانده مما أدى لصدور قرارات لمصلحته، ساهمت بشكل أو بأخر بخلل في السياسات النقدية، التي كان من المفترض أن تحافظ على احتياطي القطع الأجنبي في سورية.
 وأضاف شهدا:“ إننا اليوم أمام فشل في السياسات الحكومية مع عدم وجود رؤية وخطط مستقبلية تفتقر للبيانات الصحيحة، وهو ما أخرج سياسات فاشلة رافقها عدم دراسة للعلاقات الاقتصادية مع الدول المحيطة وعدم التوازن في العلاقات مع الدول المحيطة على مستوى الصناعة أو الزراعة، وكانت القرارات كلها غير فاعلة وأثرت بشكل سلبي على الوضع الاقتصادي بكل مناحيه، وظهرت الكثير من الثغرات والمشاكل، ومايثبت عدم صوابية كل القرارات الاقتصادية الأخيرة هو وصول الوضع إلى الركود التضخمي، وهناك الكثير من المنتجات المكدسة ورأس المال المجمد الذي أدى إلى ضعف في قدرة الفرد على الاستهلاك وضعف القوة الشرائية لليرة السورية“.
 
 حلول لمواجهة العقوبات
 يضيف شهدا: أن الحل اليوم ليس مستحيلًا لذلك يتوجب على الفريق المعني تحديد الوجهة الاقتصادية والرؤية عبر وضع قاعدة بيانات صحيحة يوضع على أساسها الحلول، وأهم مايجب العمل عليه وضع سياسة نقدية محكمة مع دعم المصارف بشكل كبير، وقيام المصارف بطرح قروض لتحريك الأسواق لدعم عجلة الاستهلاك فيها، ووضع سياسة زراعية جيدة للنهوض بالناتج المحلي الإجمالي، كما يجب دعم الصناعة بالأخص التحويلية التي تعتمد على المنتجات الزراعية، وتنمية البادية والسماح بزراعة أراضيها، وإعادة دراسة القوانين والقرارات التي سببت اختناقاً للاقتصاد السوري، والاهتمام بالكادر السوري عبر إعطائه الدور الكامل لطرح أفكاره واقتراحاته الخاصة بالحلول، والأهم تشكيل مجلس استشاري يكون جدي بحل العقبات مرتبط بهيئة تخطيط الدولة وخارج إطار الحكومة“.
 فيما كانت وجهة نظر أستاذ الاقتصاد إبراهيم قوشجي: أنه يمكن إيجاد بعض الحلول مثل إنشاء شركات أجنبية بالتعاون مع الدول الصديقة داخل سورية لاستيراد السلع الضرورية، والتغافل قليلًا عن طريق دخول السلع الضرورية عبر المنافذ الحدودية لسد بعض الطلبات وإن كانت صغيرة، وتشجيع بعض السوريين ممن يحملون جنسيات أجنبية لتوريد بعض مستلزمات الإنتاج، والاستفادة من المصارف الخارجية للحليف الاستراتيجي للمصارف الخاصة السورية بتنفيذ الاعتمادات لمن يدعم الاقتصاد السوري بكفالات مصرفية من فروعها المرخصة داخل سورية“.
 فيما كان العديد من الخبراء الاقتصاديون قد تحدثوا عن حلول حتى قبل بدء التنفيذ تتمثل بتشكيل إدارة مسؤولة بذهنية جديدة ومتطورة ورؤية مختلفة فعالة ومخولة تضم ممثلين عن الجهات المعنية العامة والخاصة لتحديد الأولويات الفورية المطلوبة لمواجهة هذه الظروف ووضع البرنامج الزمني للتنفيذ الفوري وتحديد دور كل جانب عام أو خاص فيها بما فيهم الأصدقاء.
 في ذات الوقت يرى آخرون أن هذه المرة ليست كالمرات السابقة بسبب الأوضاع الداخلية والإقليمية والدولية وخاصة الأوضاع الصعبة التي يعيشها لبنان والدول الصديقة أو ”الرمادية“، مستشهدين بتراجع قيمة الليرة السورية ومنعكساتها الاقتصادية والاجتماعية الحالية قبل دخل قانون قيصر حيز التنفيذ الفعلي.
 العودة للاعتماد على الذات بشروط
 من جانب أخر تحدث الخبير الاقتصادي أحمد عياش أن برنامج الاعتماد على الذات برنامج صحيح خاصة ان وسورية متكاملة اقتصادياً، وبواعث العودة كانت قوية، لكن يجب وجود »برنامج وطني واضح يعتمد على الحالة التفضيلية، وينطلق من خصوصيّة الوضع، والإحاطة بالفساد عبر برنامج إصلاح إداريّ حقيقيّ يعتمد آلية الكفاءة والنزاهة ومكافحة التهريب، لكن الشيء الإيجابي حتى الآن أن إجماعاً على دور الإنتاج الصناعي الهام في مواجهة قانون قيصر وتداعياته سواء في تلبية الحاجة المحلية أو تأمين المزيد من القطع الأجنبي.
 وختم عياش القول بأن : الخبرة السوريّة مع العقوبات الأمريكية لايمكن الاستهانة بها، فمنذ أواخر سبعينات القرن الماضي تعيش سورية تحت رحمة العقوبات الأمريكية، التي تشمل عقوبات اقتصادية ومصرفية وفي مجال الطاقة والمعدّات العسكرية والتقانة الحديثة..إلخ، كما أن قانون محاسبة سورية 2003 ، كان يمثّل تحدّياً للحكومة السورية، التي استطاعت أن تتجاوزه، وتحقّق انفتاحاً دولياً امتدّ من 2008 حتى 2011 ، ويأتي قانون (قيصر) ليفتتح العقد الخامس على التوالي من عمر العقوبات الأمريكية على البلاد.
 
 العقوبات كرست الحصار من كل الجهات
 بدوره تحدث أستاذ الاقتصاد في جامعة حماة إبراهيم قوشجي عن أبرز النتائج التي انعكست على الاقتصاد السوري منذ بدء تنفيذ قانون »قيصر « على أشخاص وهيئات سورية كرس الحصار على الاقتصاد السوري، كما شمل هذا التأثير قطاع الصحة والأغذية أيضاً لعدة أسباب: -عدم قدرة الجهاز المصرفي السوري فتح اعتمادات مستندية لاستيراد السلع والخدمات وان كانت ضرورية مثل الأغذية. -انتشار تخوف لدى الشركات العالمية من التعامل مع السوريين والابتعاد من التعاقد معهم وتصدير بضائعهم لغير السوريين. -عدم استقرار الدول المجاورة مثل لبنان والعراق وتراكم أزماتهم المالية. -استخدام القانون ”قيصر“ لأهداف سياسية معادية من باقي دول الجوار مثل تركيا. -التزام الدول العربية بهذا الحصار بشكل كبير عكس أي حصار أو عقوبات سابقة مما زاد تأثيره السلبي على الاقتصاد السوري.
 مضيفاً أدى هذا الحصار إلى انخفاض كمية السلع المستوردة وانخفاض مخزونها في الاقتصاد السوري مما أدى إلى ارتفاع أسعارها مع تحسن قيمة الليرة السورية مقابل الدولار الأمريكي، بعكس ما كان ملاحظاً قبل فرض الحصار الجائر على سورية.
 
الأضرار التي تواجه سورية جراء قانون »قيصر «
 فرض حصار خانق على المعدّات والتجهيزات التقنية، ومدخلات الإنتاج وحوامل الطاقة والمؤسّسات المصرفية وشركة الطيران الحكومية وقطع الغيار، وكلّ ما يرتبط بالتجهيزات العسكرية، ويفرض القانون الذي يُعرف أيضاً باسم (سيزر)، الذي فرضته واشنطن للمرة الأولى، عقوبات على المورّدين والمموّلين لكلّ ما ذكر آنفاً، إضافة إلى شركات الشحن، والمؤسّسات التجارية والأشخاص، وأَفردَ القانون أبواباً خاصّة لكلّ حالة على حِدة، إضافة إلى صلاحيّات، ومهامّ الرئيس الأمريكي، مع مُدَد زمنية محدّدة لاتّخاذ الإجراءات، والاشتراطات التي يجب أن تلتزم بها المؤسّسات المعنيّة بمتابعة تطبيق هذا القانون وحالات اختراقه، واستثنى القانون المواد الغذائية والطبّية.
 لكن وزير الاقتصاد سامر الخليل كان قد أكد أن ما يُشاع حول استثناء بعض القطاعات من العقوبات الأميركية أحادية الجانب الجائرة ضد الشعب السوري، كالغذاء والدواء، أمر غير صحيح، لأن استيراد وتصنيع الدواء أو حتى الغذاء يحتاج إلى إجراءات مالية ومصرفية، ولا يوجد مصرف في سورية قادر على فتح اعتمادات في الخارج، وممنوع التعامل مع أي شركة أو مؤسسة عالمية.

شارك برأيك .. لتكتمل الصورة


استطلاعات الرأي

يجب ان تختار خيار قبل ارسال التصويت
هل تعتقد أن الوقت قد حان لبدء تطبيق الدفع الإلكتروني في سوريا؟
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني
النتائج
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني