عن حضور الدولة

عن حضور الدولة

يعيش السوريون  اليوم أزمة كورونا بآثارها الاقتصادية وحصادها لأرواح الكثير من المواطنين , تأتي هذه الأزمة كحلقة جديدة في مسلسل الأزمات الطويل ذات التاريخ الحافل في بلادنا , فمنذ كارثة الجفاف التي ضربت شمال شرق سورية لأعوام متتالية بين عامي  2006  و2009  , إلى قرارات  تحرير المشتقات البترولية و تحرير الأسمدة والبذار والأعلاف  وانعكاساته على القطاع الزراعي والحيواني دون دراسة كافية  ، مرورا بأزمات اقتصادية ولدت مع بدء تنفيذ اتفاقية التجارة للمنطقة العربية الكبرى عام 2005، واتفاقية التجارة الحرة الموقعة مع تركيا  في عام 2007 التي كانت مجحفة وغير متكافئة , وتحول بموجبها معظم المنتجين إلى مستوردين , وأزمتنا المستمرة المتعلقة بغلاء أسعار السلع وارتفاع سعر الصرف  منذ بدء الحرب في 2011 ,كل ما سبق , سبب الشعور القاتم بفشل السياسات الحكومية في معالجة المشاكل الكبرى التي تواجه الناس.

عندما تثبت الدولة قدرة على مواجهة المشاكل والتعامل معها، يشعر الناس بالاطمئنان ويترسخ لديهم أكثر مفهوم حضور الدولة والثقة بمؤسساتها بمعنى السند، سواء من خلال الخطط البعيدة المدى والاستباقية، وفي هذا السياق نذكر النقاط التالية كأسس لبناء الثقة بالدولة:
أولا: ثقة الناس بمؤسسات الدولة وسرعة استجابتها بالعمل على حل المشاكل المستجدة، سواء في حالة العوامل البيئية والمناخية أو الأوبئة والأمراض أو في الحروب...،
ثانيا: استماع الحكومة لهموم الناس وتكييف سياساتها وإجراءاتها تبعا لذلك، والمعلومات أو البيانات الصادرة عنها تتصف بالشفافية والدقة والمصداقية، وعدم إخفاء المعلومات عن العامة بهدف تضليلهم.
ثالثا: قدرة الدولة على التدخل في الحياة الاقتصادية، ورعايتها للمنتجين المحليين سواء الزراعيين أو الصناعيين وتأمين احتياجاتهم الضرورية، من خلال توفير حزم التحفيز الاقتصادي بما تتضمنه من قروض ومشاريع بنى تحتية أو خدمات، هذه الإجراءات التي تقوم بها الدول التي تمر بأزمات اقتصادية.

في سورية، مجريات الحياة اليومية تقول بأنه تعمق شعور الناس بعدم الثقة ببيانات بالحكومة أو بإجراءاتها في لا وعيهم، لأسباب كثيرة وتراكمية، منها تاريخ طويل من الخيبات في طريقة حل المشاكل ، إضافة للمعلومات الغير صحيحة أحيانا وافتقار الشفافية في كل المؤسسات والوعود الخلبية والتصريحات الجوفاء ، لعل أحدث الأمثلة، الإحصائيات والبيانات والإجراءات الفاشلة المتعلقة بانتشار الإصابات بفيروس كورونا.... والمثال الثاني، هو حالة الشك عند الجمهور بالهدف الحقيقي وراء انهيار قطاع الدواجن ...وبدل السماح باستيراد الفروج المجمد يمكن للقطاع الخاص أو العام إقامة معمل أعلاف للدواجن أو تأمين أدوية بيطرية بشكل استباقي!!!! مثال آخر .... فقدان بعض الأدوية من السوق وتوفر أدوية أخرى مستوردة بأسعار عالية...... والسؤال الملح: لمصلحة من ......؟؟؟؟ في ظل هكذا شكوك وتردي في العلاقة بين الحكومة والناس، لا نستطيع التحدث عن الثقة بالحكومة.  
العامل الأخير في تحديد مفهوم حضور الدولة، هو قدرتها على التدخل، عندما يعاني اقتصاد البلد من ركود وانكماش غير مسبوق، السؤال هو: هل تستطيع الدولة حاليا التدخل لتحريك العجلة الاقتصادية؟؟؟؟ والإجابة بأن ذلك غير ممكن حاليا .... بسبب ضعف ومحدودية الإيرادات العامة وبالتالي حالة الخواء التي تعانيها الخزينة العامة، وبالتالي لا تستطيع الحكومة تحمل أعباء زيادة الإنفاق العام، ليعمل كمحرك رئيسي للخروج من الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، سواء عبر ضخ الأموال في قطاعات اقتصادية لخلق وظائف جديدة ومكافحة البطالة، أو تحسين القدرة الشرائية لليرة السورية ورفع المستوى المعيشي، لا يوجد حل إلا بترميم الإيرادات العامة وإعادة هيكلتها .
وهنا يبرز التساؤل الأهم، عن إمكانية ترميم هذه الإيرادات في ظل الظروف الحالية، حيث تداعيات الحرب والعقوبات الأمريكية والغربية التي تزيد من بؤس الواقع الاقتصادي السوري، والإجابة هنا , تشترط لزيادة الإيرادات العامة ودون فرض ضرائب جديدة مكافحة الفساد كشرط لازم, إن الفساد يعمل في خزينة الدولة وإيراداتها مثل الثقوب في وعاء فيه ماء , وتجفيف مصادر الفساد هي الطريقة الأنجع لمكافحته واسترداد الأموال العامة المنهوبة وإغلاق الثقوب في الوعاء .
في حالة ضعف السيولة  في الخزينة العامة للدولة, قد  تلجأ الحكومة للاستدانة من البنك المركزي مقابل سندات من وزارة المالية , كإجراء ضروري للوفاء بالتزاماتها ونفقاتها الضرورية , أو ما يسمى "التمويل بالعجز" , صحيح أن هذا الإجراء  يوفر للحكومة السيولة الآنية ويمكنها من تأمين نفقاتها  , ولكنه سيسبب لاحقا التضخم للاقتصاد الوطني في قطاعيه العام والخاص , ويخفض القيمة الحقيقية لعائدات الحكومة من الضرائب والرسوم الجمركية وفوائض مؤسسات القطاع العام والأرصدة الحكومية  في البنوك العامة والخاصة وإيراداتها المتنوعة الأخرى , أي أن كلفة هذا التمويل عالية جدا وبالتأكيد تتجاوز السيولة التي أتيحت للدولة للوفاء بالتزاماتها ,وهذا الإجراء سيؤدي بالتأكيد إلى  خفض  القدرة الشرائية للعملة الوطنية , والدخل الشهري للمواطنين سيكون عاجزا عن تلبية متطلباتهم الأساسية والضرورية ,الأمر الذي يلقي بهم  على قارعة الفقر والعوز بكل تداعيات الفقر وآثاره المعروفة على ارتفاع منسوب الجريمة وتغير تركيبة المجتمع إلى الأسوأ , كل ما سبق له تأثير سلبي على شعور الناس بحضور الدولة  في حياتهم وثقتهم بإمكانيتها على معالجة المشاكل الاقتصادية التي  تعانيها البلد منذ سنوات .
إن حضور الدولة يتعزز عندما يشعر المواطن بأنها ملاذه الأخير، وهي التي تحرص على مصلحته ولا يمكن أن تغشه أو تخدعه أو تكذب عليه، وبنفس الوقت, لا يمكن الثقة بالحكومة التي تفصل القرارات على مقاس بعض المستفيدين ...بغض النظر عن النتائج الكارثية لقراراتها وسياساتها على الناس.

 

شارك برأيك .. لتكتمل الصورة


استطلاعات الرأي

يجب ان تختار خيار قبل ارسال التصويت
هل تعتقد أن الوقت قد حان لبدء تطبيق الدفع الإلكتروني في سوريا؟
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني
النتائج
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني