أزمة قمح تلوح في الأفق بعد دمار صوامع مرفأ بيروت

أزمة قمح تلوح في الأفق بعد دمار صوامع مرفأ بيروت

المشهد - قضايا عربية

في مرفأ بيروت، امتزجت أطنان من القمح والذرة المخزّنة في الاهراءات (صوامع تخزين الحبوب) مع الأتربة والركام بعدما دمّر الانفجار الضخم جزءاً منها، ما يثير خشية اللبنانيين من انقطاع الخبز في بلد يعاني أساساً من غلاء الأسعار.
ويُعقّد الانفجار الضخم وصول المواد الغذائية في بلد يستورد أكثر من 85 في المئة منها، لا سيما القمح لإنتاج الخبز، في وقت ارتفع سعر كيس الخبز جراء الأزمة الاقتصادية خلال الأسابيع الماضية من 1500 إلى ألفي ليرة لبنانية.
وتناثر 15 ألف طن من القمح والذُرة والشعير من إهراءات مرفأ بيروت التي تضررت مع الطاحونة القريبة منها بشكل كبير وانهارت أجزاء كبيرة منها. ويفاقم تضرر الإهراءات، التي تتسع لـ120 ألف طن من الحبوب، مخاوف اللبنانيين الذين يخشون منذ أشهر انقطاع القمح أو ارتفاع سعره أكثر في ظل الأزمة الحادة في السيولة، باعتبار أن هذه المادة الأساسية مدعومة من الدولة.
ويتخبّط لبنان في أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه الحديث، وخسر عشرات آلاف اللبنانيين وظائفهم أو جزءاً من رواتبهم وتآكلت قدرتهم الشرائية، فيما ينضب احتياطي الدولار لدى مصرف لبنان لاستيراد مواد حيوية مدعومة كالقمح والأدوية والوقود. كما فرضت المصارف قيوداً على سحب الدولار ومنعت عمليات تحويله إلى الخارج، مما عقّد العمليات التجارية.
وتراجعت حركة حاويات البضائع بنسبة 45 في المئة في النصف الأول من العام 2020 مقارنة مع العام الماضي، وفق تقرير صادر عن «بلوم إنفست»، في وقت ساهم تدهور قيمة الليرة اللبنانية بنسبة 80 في المئة بارتفاع حاد في أسعار المواد الغذائية تخطى سبعين في المئة.
وقال موريس سعادة، مبعوث منظمة الأغذية والزراعة «فاو» التابعة للأمم المتحدة إلى لبنان، ومدير ميناء طرابلس واستشاري في قطاع الحبوب في المنطقة أن انفجار بيروت دمر صومعة الحبوب الرئيسية الوحيدة في لبنان، في حين أُرجئت خطط إنشاء صومعة أخرى في ميناء طرابلس، ثاني أكبر موانئ البلاد، قبل أعوام بسبب نقص التمويل.
كانت الصومعة المدمرة تسع نحو 120 ألف طن من الحبوب. ويعني تدميرها وتعطل الميناء، وهو المنفذ الرئيسي للواردات الغذائية، أن المشترين سيضرون للاعتماد على منشآت التخزين الخاصة الأصغر حجما لمشترياتهم من القمح.
ويعزز هذا بواعث القلق حيال إمدادات الغذاء في لبنان الذي يربو عدد سكانه على الستة ملايين نسمة ويستورد جميع احتياجاته تقريبا من القمح.
وقال سعادة «هناك مواقع تخزين أصغر داخل مطاحن القطاع الخاص لأنه يتعين عليهم تخزين القمح قبل طحنه وتحويله إلى دقيق.
وفي ظل الأزمة التي تشهدها المصارف ومعاناة البلاد من أحد أكبر أعباء الدين العام في العالم، قال وزير الاقتصاد اللبناني، راؤول نعمة، إن القدرة المالية للدولة اللبنانية والبنك المركزي محدودة جدا لمواجهة آثار الكارثة التي يقدر البعض أنها كبدت لبنان خسائر تصل قيمتها إلى 15 مليار دولار.

نهج انتقائي وحلول طوارئ

وعدم وجود محطة مخصصة لحاويات الحبوب أو صوامع ومخازن كافية في ميناء طرابلس يوضح نهجاً انتقائياً يتسم بتوفير الاحتياجات الآنية فقط فيما يتعلق بالأمن الغذائي.
كما يوضح ذلك كيف تلجأ الدولة لخطط طارئة بدلاً من حلول طويلة الأمد لملفات رئيسية مثل توفير الطاقة الكهربائية، وجمع القمامة، إذ تنتقل من حل سريع مؤقت إلى آخر منذ نهاية الحرب الأهلية بين عامي 1975 و1990.
ووصف هشام حسنين، المستشار الإقليمي في قطاع الحبوب ومقره القاهرة، الموقف بأنه ينطوي على مخاطرة. وقال أن المطاحن الخاصة في البلاد، والتي يبلغ عددها نحو ثمانية في الإجمال، ستضطر إلى توفير وسائل لوجستية جديدة بسرعة حتى يتسنى لسلسة الإمدادات أن تعمل بسلاسة، حتى بعد أن تعرض بعضها لأضرار جراء الانفجار. ويعني ذلك نقل القمح بشاحنات لمستودعات قريبة في وقت جرى فيه تحويل معظم حركة النقل المتجهة في الأصل لبيروت إلى طرابلس، وليس القمح فقط.
ولم تحتفظ الحكومة اللبنانية كذلك بمخزونات استراتيجية من الحبوب.
وأضاف حسنين «ما كان يحدث هو أن المطاحن الخاصة كانت تخزن ما ليس لديها مكان كاف له من الحبوب في مخازنها الخاصة في تلك الصومعة في بيروت ويأخذون منها عند الحاجة».
وأضاف «كان هذا هو المخزون في البلاد وليس احتياطياً استراتيجياً للحكومة بالمعني الدقيق للكلمة، وكان في العادة يكفي لفترة تتراوح بين شهرين ونصف إلى ثلاثة أشهر من الاستهلاك».
وكان الوزير راؤؤل نعمة قد قال أن 15 ألف طن فقط كانت مخزنة في الصومعة عندما ضرب الانفجار المرفأ، وأن لبنان يحتاج إلى مخزونات تكفي لثلاثة أشهر تقريبا في أي وقت من الأوقات للوفاء بأغراض الأمن الغذائي.
وإذا كانت تقديرات معدل الاستهلاك هي ما بين 35 ألفا و40 ألف طن شهريا فإن ذلك يعني الحاجة لمئة ألف طن.
ويستورد لبنان ما بين 90 و95 في المئة من استهلاكه من القمح وأغلبه من منطقة البحر الأسود. أما أغلبية إنتاج القمح المحلي فهو من القمح الصلد وهو نوع مناسب أكثر لمنتجات المعكرونة.
وقال نعمة أمس الأول أن وزارته كانت تعتزم زيادة المخزون الإستراتيجي إلى نحو 40 ألف طن لكنها لم تتمكن بعد من ذلك.
وأضاف أنه رأى أن البلاد لم يكن لديها مخزون إستراتيجي وقرر شراء كمية وحصل على موافقة مجلس الوزراء بالفعل، وكان المسؤولون في المراحل النهائية من المفاوضات لتنفيذ ذلك.
وأشار إلى أنه من حسن الحظ أن ذلك لم يكن قد تم بعد وإلا كان قد تدمر هذا المخزون أيضا في الانفجار.
وحتى قبل الانفجار، تسبب تداعي قيمة العملة المحلية والارتفاع الحاد في الأسعار في انزلاق الكثيرين من اللبنانيين إلى الفقر مما أثار مخاوف من انتشار الجوع على نطاق واسع.
وقالت متحدثة باسم «برنامج الغذاء العالمي» في بيان معد لإفادة في مقر الأمم المتحدة في جنيف «برنامج الغذاء العالمي قلق من أن يؤدي الانفجار والأضرار التي لحقت بالمرفأ إلى تفاقم وضع الأمن الغذائي الصعب بالفعل، والذي تدهور بسبب الأزمة المالية الحادة في البلاد، وجائحة كوفيد-19»، مضيفة أن البرنامج سيوزع منحا غذائية على آلاف الأسر.
جرى تحويل وجهة أغلب الشحنات إلى طرابلس في ظل استمرار عمليات تقييم الأضرار في مرفأ بيروت. وقال أحمد تامر مدير ميناء طرابلس أن المرفأ يستقبل بالفعل مليوني طن من السلع سنوياً، وأن الطاقة الاستيعابية الإجمالية للمرفأ هي خمسة ملايين طن.

تأجيل بسبب نقص التمويل

وقال إنه بالنسبة للحبوب فيمكن للمرفأ استقبال ما يتراوح بين 200 و250 ألف طن على الأكثر وهو الحد الأقصى للطاقة الاستيعابية في ذلك. وأضاف أنه يتعين أن تكون هناك خطة لوجيستية وإدارة ناجحة لسلاسل الإمداد.
وسيتعين نقل الحبوب التي يستقبلها ميناء طرابلس لمسافة نحو كيلومترين ليجري تخزينها في مطاحن قريبة إذ لا يضم هذا المرفأ صومعة.
وكان من شأن الترتيبات اللوجستية أن تكون أبسط إذا كانت خطط بناء صومعة في ثاني أكبر الموانئ في البلاد قد تحققت قبل سنوات.
وقال تامر أن خطط بناء صومعة للحبوب تبلغ طاقتها الاستيعابية نحو 150 ألف طن جاءت في إطار مشروع أوسع نطاقا لتطوير المرفأ ككل، لكنها تأجلت بسبب نقص التمويل.
وكانت الخطط التي تعود لثلاث سنوات مضت تشمل أيضا منطقة كاملة للخدمات اللوجستية حول الصومعة.
وقال تامر أنهم أعدوا كل الخرائط والرسوم الهندسية المطلوبة وكل الدراسات، لكن لم يكن هناك ما يكفي من التمويل مشيرا إلى أن وزارة النقل تعيد النظر في المشروع حالياً.
وأضاف أن من الممكن تنفيذ ذلك في أسرع وقت ممكن وإعطاء المشروع أولوية لبنائه في وقت قياسي لمنح لبنان تأميناً استراتيجياً لاحتياجاته الغذائية. ويقول غسان أبو حبيب رئيس مجلس إدارة أفران «وودن بيكري» في وسط بيروت «عندما رأينا الصوامع، أصبنا بالذعر».
ويضيف «منذ ما قبل الإنفجار، نواجه صعوبات بالنسبة إلى القمح والطحين، إذ ليس لدى المطاحن كميات كافية، كما ليس لديهم المازوت» الضروري للتشغيل. وتحتاج أفران «وودن بايكري» التي توزع منتجاتها في المناطق كافة، إلى ما بين 60 و70 طناً من الطحين يومياً، غير أنه لم يكن بمقدورها الحصول خلال الفترة الماضية إلا على سبعين في المئة من حاجاتها.
ويقول أبو حبيب «مطبخنا الرئيسي غير قادر على تلبية الطلبات الضرورية لتعبئة الرفوف».
غداة الانفجار، توافد مئات الزبائن إلى فرن الكبوشية الصغير في شارع الحمرا في بيروت خشية انقطاع الخبز في السوق.
ويقول أحد عاملي الفرن حيدر الموسوي «انتهى المخزون لدينا جراء التهافت على الخبز والطحين»، مشيراً إلى أن الشخص الواحد كان يشتري خمسة أكياس من الخبز إثر وقوع الانفجار.
ويضيف «الخبز هو الشيء الوحيد الذي يُشبع الفقير. فنحن لا نجلس في مطاعم مار مخايل لنأكل اللحمة بالشوكة والسكين».
وسارع مسؤولون غداة الانفجار إلى التخفيف من وطأة المخاوف، وطمأنوا إلى وجود مخزون من القمح يكفي لشهر كما أن شحنات جديدة ستصل إلى مرفأي طرابلس شمالاً وصيداً جنوباً.
لكن المرفأين غير مجهزين مثل مرفأ بيروت المدمر، ولا يوجد فيهما إهراءات للتخزين، وفق ما يقول مدير إهراءات بيروت السابق موسى خوري.
ويوضح «لا مثيل لمرفأ بيروت. كانت عمليات إفراغ البواخر ونقل الحمولة إلى الصوامع أو تفريغ الصوامع لإرسال الحبوب إلى المطاحن تتواصل على مدى 24 ساعة في اليوم».
ومن المرجّح ألا تشهد أفران ومتاجر لبنان نقصاً في الخبز سريعاً، لكن «المشاكل الكبيرة» ستظهر خلال الأشهر المقبلة.
وأمام الواقع الجديد، سارع أصحاب المطاحن إلى تقدير كلفة نقل القمح من طرابلس، التي تبعد 80 كيلومتراً عن بيروت، فاتضح أنها ستكلفهم ستة دولارات إضافية للطن الواحد، وفق ما يقول مدير مطاحن منطقة الدورة رسلان سنو.
ويتساءل سنو «من سيدفع ثمنها؟ نحن؟»، مشيراً إلى أن كميات القمح القليلة التي كانت موجودة في إهراءات بيروت كما في المطاحن كانت مرتبطة بتأخر المصرف المركزي في دفع المستحقات للمُزوِّدين.
ودقت الأمم المتحدة أيضاً ناقوس الخطر، إذ حذر الفرع المحلي لـ»برنامج الغذاء العالمي» من أن يؤدي الانفجار إلى «تفاقم الوضع الاقتصادي والغذائي المتردي بالفعل في لبنان… وارتفاع أسعار المواد الغذائية لتكون بعيدة عن متناول الكثيرين».
ومنذ أشهر، يلجأ عدد متزايد من اللبنانيين إلى المنظمات الإنسانية مثل «بنك الطعام في لبنان»، والتي كانت خدماتها مكرسة بشكل أساسي لمساعدة نحو مليوني لاجئ سوري وفلسطيني في لبنان. ودأبت المنظمة على وضع أكياس من الخبز في سلّتها الغذائية من تبرعات أفران ومطاحن.
ومنذ وقوع التفجير، يوزع متطوعو المنظمة السندويشات والوجبات الخفيفة على السكان الذين طالت الأضرار منازلهم.
وتقول المديرة التنفيذية للمنظمة سهى زعيتر «ليس لديهم وقت للطبخ لأنهم ينظفون منازلهم».
وتلقت المنظمة حتى الآن تبرعات على موقعها الإلكتروني من أكثر من عشرة آلاف شخص، وأرسل آخرون مبالغ نقدية أو مساهمات عينية.
وتخشى زعيتر ألا تتمكن منظمتها من تقديم ما يكفي، إذ أن أحد الأفران، الذي كان يتبرع بـ500 كيس خبز، أبلغها أنه لن يستطيع زيادة الكمية خشية من نقص في القمح.
وتقول زعيتر «كنا نواجه أساساً وباء كوفيد-19 والأزمة الاقتصادية، ثم وقعت هذه الحادثة الكارثية لتزيد الطين بلّة».

(وكالات)

 

شارك برأيك .. لتكتمل الصورة


استطلاعات الرأي

يجب ان تختار خيار قبل ارسال التصويت
هل تعتقد أن الوقت قد حان لبدء تطبيق الدفع الإلكتروني في سوريا؟
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني
النتائج
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني

الأكثر مشاهدة هذا الشهر