بسام كوسا: مخرجو اليوم أنصاف أميين والمنتجون تجار أزمة والقائمون على المؤسسات الثقافية أشبه بشيوخ العشائر (فيديو)

بسام كوسا: مخرجو اليوم أنصاف أميين والمنتجون تجار أزمة والقائمون على المؤسسات الثقافية أشبه بشيوخ العشائر (فيديو)

بديع صنيج
فنانٌ يُعلي من شأن الفكرة في كل ما يشتغل عليه، ويؤمن بأن الفن هو ”فعل“ وليس ”رد فعل“، ولذلك لم يشارك في الأعمال المعاصرة التي تحكي عن الحرب، لاسيما أنها ”لا تتمتع بالحكمة اللازمة لقراءة اللحظة الراهنة“، إضافة إلى آرائه بأن معظم مدراء الإنتاج الدرامي باتوا ”تجار أزمة“، بينما أغلب المخرجين ”أنصاف أميين“. ويرى أن ما حصل في سوريا هو ”معركة ضد الثقافة“، وأنه لن تقوم قائمة لأمة ما لم تأخذ الثقافة في حسبانها ، وبالمقابل أكثر ما تقوم به وزارة الثقافة هو ”استعراضات ليس لها جذور“، ومؤسسات باتت ”مزارع شخصية“ نتيجة الخلل في العقلية التي تديرها. عن آرائه في الثقافة والفن والمواطنة والأخلاق المهنية كان حوارنا مع الفنان ”بسام كوسا“:

لديك رأي عبَّرت عنه مؤخراً، بأن كل ما اشتغلته في فترة الحرب ليس فناً، وإنما دفاعٌ عن الحياة ، ما سبب ذلك؟
هذا الموضوع إشكالي، ولا يتعلق فقط بالدراما، فمن حيث المبدأ، ما حصل في البلاد هو معركة ضد الثقافة، رغم بعض تمظهراتها الخارجية التي لها علاقة بالنفط والاقتصاد وما إلى هنالك، لكن الهدف الأساس ثقافي بامتياز، وهو ما يُفسِّر قيام الذين حملوا السلاح، سواء الآتين من الخارج، أو من ساندهم –للأسف- من أهل سوريا، بسرقة الأوابد الأثرية، وإن لم يستطيعوا فتدميرها، لأن القصد تدمير الذاكرة بجانبها المضيء، كما أن السعي الحثيث من قبل معظم الدول المشاركة وليس فقط الأفراد، هو للنيل من ثقافة هذا البلد، وهذا متعارف عليه تاريخياً، فأي استعمار عندما يجتاح بلداً، أول شيء يفعله هو محاولته أن يطمس الثقافة الموجودة. على الجانب الآخر المتعلق بالدراما، لن أستطيع أن أصدق المقلب الذي أكلناه بأنفسنا، وكل الوقت أسمع نهضت الدراما السورية  و حققت و عادت إلى ألقها  و عصرها الذهبي ...، بينما معظمها كان دفاعاً عن الحياة، فالناس أرْبكَتْ ذهنيّتها وطريقة تفكيرها، ومنتوجها بات مختلفاً ومرتبكاً مع استثناءات قليلة جداً، أما الباقي فهو دفاع عن الحياة، وكل ما حصل، وأنا مساهم فيه، لا يعتبر طموحاً فنياً.

هذا دفعك الموسم الماضي لألا تعمل إلا ضمن مسلسل سلاسل ذهب البيئي، وهو لا يطرح قضايا فكرية عميقة، وإنما يبقى في السطح، في حين أنك رفضت الاشتغال في مسلسلات أخرى أعمق لكنها لا تلتقي مع أفكارك ومع ما تريد قوله.
المعادلة صعبة جداً. هي معادلة مفروضة وغير مشتهاة، ولكن أن أشتغل عملًا معاصراً ضد قناعاتي، وضد طريقة تفكيري، هذا غير وارد، لذلك أن أعمل ضمن مسلسل يحكي في السطح، فولكلوري، مسلٍّ، وغير مؤذي طبعاً، ولا يطرح مفاهيم تختلف مع وجهة نظري، أفضل من العمل في المعاصر وفيه إبداء رأي بالمرحلة بطريقة لا تتقاطع معي.

برأيك هل هنا تكمن خطورة الأعمال المعاصرة؟
الأعمال بمجملها التي كانت ناتجة عن الأزمة والحرب التي نعيشها، كانت مبنية على رد الفعل، ولا تتمتع بالحكمة اللازمة لدراسة اللحظة، بينما الفن هو فعل. رد الفعل يكون مُشَخْصَناً أو ذو رؤية واحدة، وهي ليست شاملة ولا تحليلية، نحن بحاجة زمن طويل لنفكر لماذا حصل ذلك؟ وما تداعياته وأسبابه؟ طبعاً إذا أردنا، وبرأيي لن نفعل.

لنفترض أننا فعلنا، ألا تصبح بذلك الدراما التلفزيونية ثقيلة على الجمهور، أين عنصر الترفيه إن تحدثنا عما حصل؟
شكسبير تحدث عن القتل والحرائق الحريق الكبير يؤدي إلى رماد كبير، وعن قتل الإنسان للإنسان من أجل المصالح والدين والسلطة ... وعن العنف البشري، لكن المتعة ليست التسلية، الفائدة هي متعة، لذلك لا أرى أن الحديث عن مواضيع شائكة يفقد الدراما متعتها، فالمتعة ينبغي أن تكون حاضرة دائماً على اختلاف المواضيع، سواء بالكوميديا أو البيئي أو المعاصر أو أزمة الإنسان. ”كافكا « مثلًا قدَّم أعمالًا هائلة بمنتهى القسوة، المحاكمة مثلًا تحولت إلى فيلم من إخراج ”أورسون ويلز“ مليء بالألغاز، لكن أيضاً مليء بالمتعة، طبعاً حسب المستوى المعرفي للمتلقي.

نعود دائماً في هذه الحالة إلى مشكلة النص الدرامي. فالنص الجيد يجعل الشخصية سائدة عليك، وتمنحك مفاتيح كما تقول دائماً.
حجر الأساس لأي عمل هو الكلمة، هو النص، مضافاً إلى أنه لا يكفي أن تكون مقولة النص عظيمة، ليكون النص عظيماً، فهناك أفلام ومسلسلات مقولاتهم عظيمة، لكنهم نفِّذوا بطريقة سخيفة وتافهة، ومنفذوها يختبئون وراء المقولة العظيمة. هذا لا يكفي، دائماً هناك أدوات التعبير، والحلول، والشيء البصري والجمالي، هذا الموضوع ضروري جداً التركيز عليه، فأنا أرى في السينما السورية وفي المسلسلات مقولات هائلة العظمة، واختباءٌ خلفها، وكأن هذه المقولة يكفي قولها ليكون العمل عظيماً. كلامك صحيح، فكيف يتم الانتهاء من تصوير فيلم ب 18 يوماً، ما هذه السينما؟! لكن يبدو أننا نتفق أن السينما السورية تشهد تراجعاً كبيراً، ومؤسسة السينما تحولت إلى مزرعة شخصية كما ذكرت أكثر من مرة،

لكن كيف يمكن إعادة بوصلة المؤسسة إلى غاياتها النبيلة؟ هل مجرد تبديل الأشخاص كفيل بذلك؟
الموضوع بات له علاقة بنظام المؤسسة، فعندما أعبر عن رأيي يعتقدون أن هدفي النيل من فلان وعلتان، لكنني أتحدث عن آلية عمل.

ألم يرفعوا ضدك دعوى قضائية حتى الآن: وهن نفسية الأمة، تحقير إدارة عامة، نشر أنباء كاذبة...؟
ليسوا بحاجة لذلك، ولم يعطوا آرائي أي أهمية، لأن القافلة تسير ونحن ننبح، لكن من وجع يصيبني ويصيب حق الدنيا عليي أن أقول رأيي، يدعوك للألم والدهشة أن يكون في دمشق ما يزيد عن العشرين صالة سينما، وتأتي هذه العقلية، التي قادها فلان أو علتان، ويقضون على السينما،
وفي حلب الموضوع ذاته، كان هناك سبعة وعشرين صالة، ومع ذلك يتحدثون بقيمة الوطن وثقافة الوطن بينما هم على أرض الواقع يقضون على كل هذه المفاصل الهامة، وكل تلك الإضاءات التي تشكل معيناً ثقافياً للمجتمع. هذه مشكلة كبيرة، وسواء عذروني أم لا، هذا يخصهم، لكن خلال هذه الحرب مر علينا من عمل هذه المؤسسات الثقافية مجموعة من الناس قضوا على السينما وصالاتها ومع ذلك يحكون بالوطن. في الثقافة أيضاً يتم القضاء على الرواية والشعر والفن التشكيلي، ثم تتفاجأ كيف يتحدثون عنها، وكأن لدينا جبل من الثقافة.. بينما على أرض الواقع لم يستطيعوا أن يصنعوا مسرحاً غير مسرح الحمراء، كمسرح شعبي، هنا لن نتحدث عن دار الأوبرا التي ظللنا سنوات لتحقيقها، وهي لن تستطيع أن تكون مكاناً شعبياً، فما زال هناك من يخشى الدخول إليها، أما عندما لا تستطع خلال أكثر من ستين عاماً أن تبني مسرحاً، هذا خلل، وعندما تسألهم ماذا تصنعون إذاً؟ يقولون: نصنع عشرة أفلام سينمائية، وعشرين مهرجاناً سينمائياً، في كل محافظة ثمة مهرجان، وهذا مجرد استعراض ثقافي ليس له جذور، هذه كارثة، فالموضوع ليس فقط أن تصنع أفلاماً، ولا أن تلقي التبعة على وزارة الثقافة، نحن كلنا مسؤولون: وزارة التربية ووزارة التعليم... أنا أتحدث بثقافة المؤسسات، أما موضوع الشخصنة فعليهم أن ينسوه، لأنه لا يعنيني نهائياً، لأن الأشخاص يتبدلون لكن آلية التفكير والعقلية هي ذاتها للأسف، وعلى هذا الأساس عندما نقول أنها تحولت إلى مزرعة، يظنون أنني أتحدث عن صاحب المزرعة، بينما أنا أتحدث عن المؤسسة، لكنهم يمتلكون عقلية صاحب المزرعة، لذلك يستاؤون. اذهب وشاهد ماذا يحصل في المعهد العالي للفنون المسرحية، وماذا يحصل في مديرية المسارح، وفي المؤسسة العامة للسينما، وفي الهيئة العامة السورية للكتاب،... ومع ذلك يرمون بوجهك كل كلمة أكبر من الثانية عن الوطن، وهم يجحظون بعيونهم بغية أن يرعبوك. تكلمت عن هذا مسبقاً.. بدأت أشعر بالملل، وأحس أنني أجتر الفكرة، لكنني بالمحصلة، أضع خطاً تحت هذا الموضوع، كما أنني لا أصور نفسي كقديس، أقول دائماً: نحن جزء من هذه العيوب، لكنني فرد ولست مؤسسة، بينما المؤسسات هي المعنية، وللأسف كل قائم على إحداها بات أشبه بشيخ عشيرة .

أخرجت فيلمين قصيرين من تأليفك ضمن مؤسسة السينما هما ”دواليك“ و“سهرة مهذبة“، ألا تفكر بتكرار التجربة؟
لا.
هذه الـ لا هي فقط لأنها ضمن المؤسسة؟
إنها ليست من اهتماماتي حالياً، وثانياً لا أريد لأحد أن يقول أعطيناه فرصة تحقيق فيلم. هناك أربع أو خمس مخرجين يعملون في المؤسسة، منذ أيام المدير العام السابق، وبقوا ذاتهم بعدما جيء بمدير عام جديد يعمل وفق نفس الآلية. أنا خارج معادلتهم، لأنني لا أستطيع أن أقول "يا محلا الكحل في عيونكم " بل أقول: هذه المؤسسة للبلد «، فيجيبون بإصرار: طبعاً للبلد، لكنهم يكملون غيَّهم.

ذكرت أن المسرح والسينما واللوحة والرواية والشعر من ضمن الفنون العزلاء التي تحتاج دائماً لمن يدافع عنها، وفي المسرح شاركت بأكثر من عمل وخرَّجت دفعتين في المعهد العالي، وهناك الكثيرون انتقدوا انتقاءك لتخريج دفعات ... لماذا هناك هذه النظرة طالما المعرفة موجودة؟
هذا الموضوع له أساس في مجتمعاتنا، ليس هناك أب بنسبة عظمى إلا يريد لابنه أن يكون طبيباً أو مهندساً، ولا يعني المجتمع أنه عبارة عن فسيفساء كامل أي جزء منه يساوي الجزء الآخر، هناك أمراض اجتماعية كثيرة، بالمقابل أنا لم أقل مرة إنني نحات، وإنما خريج نحت، وما يقابله أيضاً ليس كل خريج فنون جميلة سيصبح فناناً تشكيلياً، ونفس الشيء ليس كل خريج معهد عالٍ للفنون المسرحية هو ممثل، وما نراه يؤكد ذلك، كيف يدخلون وكيف يتخرجون، وكيف يعملون، 20 %بالمئة من خريجي المعهد هم فقط من يشتغلون بعد أن بات تعدادهم يفوق ال 500 ، طبعاً يعزون ذلك للواسطة والحظ، ونحن نوافق ذلك، ومعظم من دخلوا بالواسطة لم يحققوا شيئاً. لكن الشيء الهام أنني لم أطلب من إدارة المعهد وأرجوهم دعوني أخَرِّج دفعة ، من يظن ذلك واهم، طُلِبَ مني تحمل هذه المسؤولية وتحمَّلتها بكل ما تحمله الكلمة من معنى. اعترض بعض الخريجين على ذلك، فانسحبت، ثم حاول كذا شخص من المعترضين الخريجين الأشاوس أن يقوم بالمهمة، وكان لا يستمر لأكثر من عشر أيام، ثم يفشل ويترك المهمة، لذا هذا الموضوع مردود عليهم جميعاً، وعليهم أن يحترموا الجهد الذي بذل، وآسف للقول: »الجهد المجاني « الذي لم أتقاضى مقابله شيئاً، وما تقاضيته صرفته على العمل نفسه، وبدل أن يثمنوه -طبعاً البعض ثمنوه- لكن البعض الآخر اعتبروا أنني أخذت مكانهم. وللعلم، أنا عملت مع المعهد ودُعيت للتدريس فيه قبل أن يصبح أولئك المعترضون طلاباً فيه. المعهد العالي يعنيني كمؤسسة ثقافية، وأقدم له كل ما أستطيع، رغم عيوبه والسلبيات التي فيه، لا بأس، فنحن نحاول العمل بالممكن، وقدمت ما أستطيعه بعد دعوتي، وقدمت مشروعين أعتقد أنهما لائقان أكثر مما قدمه كثير من الخريجين الذين خرَّجوا دفعات.

في عالم الفن ليس هناك من يزيح الآخر، وأنت تؤكد أنه سيبقى الفنان الضروري للدراما، ما معنى ذلك رغم أننا متأكدون أن ما من أحد سيزيحك؟
لا يا صديقي، كل الاحتمالات حاضرة، فللأسف مجتمعنا غير صحي، لذلك ممكن »وحدة تطيرك «، ومن الجائز لاتصال أن يجعلك خارج اللعبة، لكن منذ البداية، وبعد تجارب عديدة وسنوات طويلة، حاولت أن أقنع نفسي ألا أكون مسعوراً تجاه مسألتين: ألا أكون مسعوراً تجاه المال، إن أتى أهلاً وسهلاً، فلا أحد يكره المال، لكن أبذل جهدي ألا أكون مسعوراً تجاهه، بحيث أتحوَّل إلى »قاتل مهذَّب ولطيف «، وألا أكون مسعوراً تجاه مفهوم النجومية، فلا أحد يكره أن يكون نجماً، هي تأتي عبر جهد وحضور وشغل وتعب، ولكن ألا أكون مسعوراً تجاهها، ومسألة أخيرة، حاولت كل فترة شغلي، لا أحب كلمة »مسيرتي «، ألا يكون لدي إحساس بالمشكلة مع الآخر، بل جعلت المشكلة بيني وبين نفسي، أين أسير؟ ماذا حققت؟ أين أتخلَّف وأين أتقدم؟ هذاجعل عندي نوعاً من السلام، وصرت أحب الآخر، فمشكلتي ليست معه، -هنا أتحدَّث عن المهنة طبعاً- وبت أحب ما يشتغله زملائي، وأقدره، ولم يعد عندي حسد وغيرة مهنية، فليس لي قيمة من دون وجود ذاك الآخر مقابلي، وأرجو ألا يعتبر هذا الكلام مثالياً بل هو واقعي تماماً. وأعتبر نفسي محظوظاً، فصحيح أن الجهد مطلوب أولا، لكن الحظ يلعب دوراً، وأحياناً هناك من يصطدم بعثرة واثنتين وثلاثة ولا تعرف الأسباب، بينما أنا سعيد لأنني قدرت أن أحقق جزءاً كبيراً من الأشياء التي أحبها. وأعتقد أننا بحاجة إلى الرحابة تجاه هذا النوع من الفنون الإشكالية التي عليها الكثير من الضوء، ففيها وهم أكبر من حقيقتها بكثير، بريق ووهم ودخان يعمي صاحبه. لذلك دائماً أقولها ليس علينا أن نأكل مقلباً بأنفسنا، بما فيهم الطلاب الذي دربتهم، فهذا يوقعنا بمطب هائل وشرك وحفرة من الصعب الخروج منها، وهذا دائماً أقوله لنفسي، تخيَّل أن ”مارلون براندو « لم يعد أحد يأتي على ذكره، و «شارلي شابلن « يتحدثون عنه في المناسبات فقط، »فيفيان لي « أيضاً. الاعتراف بالآخر ليس شرطاً مهنياً، بل أخلاقي. فالآخر له قيمة لا تقل عن قيمتك، والموضوع ليس قصة قصيرة عابرة، وإنما رواية كاملة، لذلك لدينا أسماء جميلة وقدمت ما هو عالي المستوى، وقدمت كل روحها لمهنتها.

مبروك حصولك على جائزة الإبداع في مهرجان الإذاعة والتلفزيون في تونس عن شخصيتك في ”الزائرة“ ضمن مسلسل ”شبابيك“، وأنت دائماً تقول أن الجائزة تعنيك وليس كأولئك الذين يدعون العكس، حتى في هذه مختلف وواقعي.
طبعاً تعنيني، هناك زملاء يقولون لا تهمني، لكنهم لم يستطيعوا أن يأخذوا تلك الجائزة التي لا تهمهم. الجائزة معنوية وتقول إن هناك من يحس بك ويقدر ما تصنعه، وبالتالي هذا شكر لك، وليس هناك إنسان -إلا إن كان كاذباً- لا تعنيه الجائزة.

ضمن هذا السياق، ذكرت مرة أنك لم تستطع الانسجام فكرياً مع منتجي الدراما بالقطاعين العام والخاص، ربما نفهمها بالقطاع الخاص حيث معظمه جاهل، هل تصنف القطاع العام في الإطار ذاته.
هو لا يجيد العملية الإنتاجية، أما موضوع الجهل قد لا تنطبق على أي منهم، بل هم على العكس أذكياء جداً، ويعرفون كيف يتصرفون، ولكن...، ربما يعتبرهم غيري فاتحين في الثقافة، ممكن أن يكذبوني وأحياناً يخونونني. في القطاع العام أنفي صفة الجهل تماماً، لأن الذكي أخطر، والفهيم أخطر، لكنني أتحدث بالنتائج، أن تحقق عشرة أعمال أو سبعة أعمال، هناك من يعتبر ذلك فتحاً بأن الإنتاج شغَّال، بينما ليس هناك من عمل مهم. أنا أرى في ذلك إسرافاً وهدر أموال في غير مكانها الصحيح، لأن الأفضل أن تصنع عملين جيدين، بدل هذا المنطق الذي يتم من خلاله تشحيد الناس، وإن قالوا بأنه مشروع ”خبز الحياة“، سأقول لهم ”ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان“، هذا كلام شعاراتي لا يؤدي إلى نتيجة، وليعذرني القائمون على ذاك المشروع، لأنني أحبهم، وليس لدي أي مشكلة شخصية معهم.

الحديث معك ممتع دائماً، لذلك دعنا ننتقل إلى حديث الذكريات، المخرج نبيل المالح رحمه الله، كان من القامات السينمائية الهامة، ومن القلائل الذين تركوا بصمة عميقة على مستوى محلي وعالمي نتيجة فهم خاص واختصاص، برأيك كم نفتقد الآن لأمثال نبيل المالح؟
نبيل المالح، وأمثاله أيضاً، فعندما نتكلم عنهم نتحدث عن حالة سينمائية، وهي بحاجة دائمة لرفدها ودعمها، فنحن الآن نلاحظ معظم مخرجي الدراما التلفزيونية أنصاف أميين، ومع احترامي لهذه المهن، فهناك منفذ إنتاج كان يحضر السندويش والماء، صار مخرجاً، والذي لم يقرأ ربع رواية صار مخرجاً، وهناك منهم من دخل إلى الإخراج وفي ذهنه أنها مجرد ثلاث أو أربع لقطات ”كلوس، وميديوم، ولونغ...“ وأيضاً الذين لا يستطيعون قراءة نص بشكل حقيقي، وبالتالي ستؤول الأمور إلى هذا الواقع. بالمقابل، هناك مخرجون على مستوى عالٍ من الثقافة، ومن الإدراك العميق لماهية هذه المهنة، ويعرفون بفلسفة الضوء وفلسفة الصورة والكادر، والبعد الحقيقي للنص والجملة. بات هناك استسهال، وثمة مخرجون »اللهم لك الحمد ،« لا تستطيع أن تقول له »إن هذا خطأ «، يقول لك »أنت الخطأ «. وتوضع ملايين الليرات بين أيديهم للإنتاج، هذه كارثة حقيقية. دعنا نقول إن الأزمة خلال تسع سنوات أفرزت هذه الظاهرة مع أنها كانت موجودة قبل الحرب، وبات أي أحد يكتب ألفاً ومئتي صفحة هو سيناريست، وعندنا إشكالية هائلة بالعقل الذي يدير العملية الإنتاجية، وهم تجار أزمة بامتياز، ولا تعنيهم الثقافة ولا البلد، رغم أنهم يتكلمون بالوطن بالفم الملآن، وأنهم السبب الرئيس لإعالة مئات الأسر... وهم ليسوا إلا منافقين أفّاكين، سأقولها وليزعلوا: داعش ضمن البلد هم هؤلاء، ولا أريدهم أن يدعوني للعمل. الموضوع وصل إلى مكان قاسٍ جداً، هم يعرفون فقط أن يحققوا المزيد من الأرباح على حساب أرواح الناس ومآسيهم. وبرأيي أن أي منتج ثقافي فكري، سواء للمسرح أو التلفزيون أو الشعر أو الرواية... سيعيش صراعاً بين الثقافة ورأس المال، والمنتصر دائماً هو رأس المال، ونحن للأسف محكومون برأس المال الجاهل. لكن حتى لو انتهت الحرب فإن أولئك سيظلون موجودين. سيبقون ويكونون أخطر، فبعد انتهاء الرصاص والقتل وتحرير ما تبقى من الأرض السورية، ستبدأ المعركة الأخطر وستنهش الناس بعضها، لأن العدو بات ابن بلدك، ويحكي بالوطنية أكثر منك، لا بل هناك مدراء مؤسسات ثقافية وغير ثقافية يرشون العبارات الوطنية رشّاً، وفي هذه الحالات لا تستطيع أن تقول لهم سوى: أنت منافق وكاذب. مشكلتنا في الحس الإلغائي والتشاوف بمحبة الوطن، رغم أن أولئك يحفظون عباراتهم صمَّاً من دون وعي حقيقي، ومنهم من هو في منصب يجعل له صلاحية لإعطائك شهادات حسن السلوك، والمواطنة، والأخلاق، حتى أنه قد يعدمك، ويعلّق مشنقتلك، ويسحب جنسيتك، أو يكفّرك ويلغيك، فقط لأنه في موقع يعرف من خلاله أن »يبعق « بحبه للوطن. الأزمة كشفتنا على حقيقتنا بأننا طائفيون، عدوانيون، قتلة، وبالمقابل هناك أناس الحياة مفهومها مختلف عندهم، ويحترمون الرأي الآخر، ويجبروك على أن تَمُدَّ لهم يدك كي يمشوا عليها، لكنهم قلّة وضعاف، بينما الصلاحيات للأقوياء.

أين نحن إذاً من مفهوم المواطنة؟ وكيف تراه؟
هنا علينا الدخول بمفهوم الملكية، أي أن يقتنع المواطن ويحس أن هذا الشارع ملكه، وأن عمود الإضاءة له، والطفل على مقعد الدراسة عليه الإحساس أن هذا المقعد ملكه. لكن بات هناك شرخ، بأن هذا ملك الدولة، وهذا المفهوم جعل الطفل يكبر ويكسر الشجرة في الحديقة لأنها ليست له، أو يكسر بلور الصف لأن المدرسة للدولة، لأنه لم يحس بملكية المكان. المواطن في دولة متطورة ومتحضرة لا يرمي المحرمة لأنه عيب، بل لأن هذا الشارع له ولا يوسخه، ويمنعك من أن تجعله وسخاً، وبالتالي مفهوم الملكية برأيي من أهم الأشياء التي تزرع في رأس المواطن المواطنة الحقة، والتي تحتاج إلى حل تربوي وأخلاقي ومسلكي في البيت والمدرسة.

ملخص بسيط لما تحدثنا عنه
وزارة الثقافة تعبانة بمعظم مؤسساتها، ومؤسسات القطاع العام الأخرى المختصة بالإنتاج الدرامي أيضاً، برأيك كيف يمكن تجاوز هذا الوضع الكارثي؟
أتمنى ألا يفهم أن هذا الكلام صادر عني شخصياً، وإنما عن واقع مُشخَّص، فإن كان في هذا الواقع شيء لم ألحظه وُأتَّهم على أساسه بأنني أتجنّى على هذا الواقع، أتمنى أن يخبروني بذلك، ويقولون بأنني أتصرف بشكل لا إنساني ولا أخلاقي تجاه هذه المؤسسات. دُلُّوني على ما تفعلونه وهو مهم لكنني لم أعرف به. الحلول لهذا الوضع الكارثي، لا أنت ولا أنا ولا أحد يمتلكها، هذه مؤسسات صار لها عشرات السنوات ولها عراقتها، أما كيف تصنع ثقافة ضمن سوريا، فهذا موضوع كبير، يبدأ من وزارة التربية، مروراً بوزارة التعليم العالي، وبدعم من وزارة الثقافة، والكثير من المؤسسات الأخرى ... وبرأيي لن تقوم قائمة لأمة ما لم تأخذ الثقافة في حسبانها، وأي أمة تتعامل باستخفاف مع مفهوم الثقافة والفنون والإبداع هي أمة زائلة، ولذلك الإشكال هائل جداً، وآسف أنني سأذهب إلى مكان آخر: ثمة فرق شاسع بين ثقافة البندقية والبندقية المثقفة، وأيضاً ثقافة المقاومة شيء مختلف عن المقاومة المثقفة، الأخيرة هي التي ستحقق حضوراً ونتائج وإمكانيات، وتصنع إنساناً عالي المستوى، فهذه المسألة وجودية ولذلك ندفع ضريبتها الآن من المحيط إلى الخليج، نحن أمة مهترئة، أعلى نسبة أمية في العالم. فهل علينا مقارنة أنفسنا مع القبائل التي تغطي عورات أبنائها بأوراق الأشجار، أم بتلك الشعوب المتحضرة، وكيف وصلت إلى حضارتها؟ لم يعد الموضوع اختراع دولاب، بل باتت الناس تعرف والشعوب تدرك نقاط ضعفها وتواجه نفسها، بينما نحن لا نملك القدرة على مواجهة أنفسنا، لأننا دائماً حلوين ، تقول لهم: يا جماعة من يستطيع مواجهة نفسه يكون قطع نصف الطريق للعلاج، لأنه اكتشف المرض، أما كيف يمكن للثقافة أن تتطور، اسأل غيري.

الجزء الأول من اللقاء:

الجزء الثاني

الجزء الثالث

شارك برأيك .. لتكتمل الصورة


استطلاعات الرأي

يجب ان تختار خيار قبل ارسال التصويت
هل تعتقد أن الوقت قد حان لبدء تطبيق الدفع الإلكتروني في سوريا؟
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني
النتائج
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني

الأكثر مشاهدة هذا الشهر