في مواجهة محاولات "تقديس الدراما" مستنقعات تؤثر على البيع أم عمليات اغتصاب أم إفساد للقيمة الفنية؟

في مواجهة محاولات "تقديس الدراما" مستنقعات تؤثر على البيع أم عمليات اغتصاب أم إفساد للقيمة الفنية؟

 بديع منير صنيج
نعرف أن أصول الدّراما تعود، في جزء كبير منها، إلى طقوس الدّيانة الدّيونيسية والاحتفالات المرافقة لها، والتي كانت سبباً رئيسياً وراء تطور المسرح الإغريقي، وظهور أسماء كبيرة كاسخيلوس، سوفوكليس، يوريبيديس، وأرسطوفانيس،... لكن ما ينبغي التَّنبُّه إليه أنه في زَمننا الحاضر لا ينبغي أن نُعيد الدراما إلى خندق الديانات، ولا أن نتهاون مع محاولات تقديسها، التي تتم من خلال ربطها بشهر رمضان المُبارَك، وتكريس طقوس جديدة لها: منها ما هو مرتبط بالثلاثين حلقة، ومنها ما له علاقة بالنُّجوم المُستعدِّين بمعظمهم لأن ينتفوا ذقن الدّراما التي يجلسون في حضنها مقابل حفنة من الدّولارات أو الدنانير، ومنها الخضوع المُزمِن لإملاءات شركات الإنتاج بأموالها المَدسوسة، بحيث تُساهم كل هذه الأمور بتدمير أمجاد الدّراما السابقة، من خلال الحَفْرِ في أساساتها، وتَعْوِيْمِ هويَّتِها، والسّعي لمحو خصوصيَّتها.
 في هذا التحقيق نُحاول الإضاءة على مُنعَكَسات تقديس الدراما مع عدد من النُّقاد:

بين الدراما وشهر رمضان علاقة قسرية
الناقد ماهر منصور يُطالب بفك أسرار العلاقة القسرية بين شهر رمضان المبارك والدراما التلفزيونية، انطلاقاً من إعادة النظر في مصطلح الموسم الدرامي الرمضاني الذي نستعمله في متن حديثنا عن الدراما التي تعرض خلال هذا الشهر، قائلًا: "الدراما التلفزيونية، اليوم، بطبيعة محتواها وتوجهاتها، ليست متوائمة مع طقوس رمضان وما يرتبط به من أجواء عائلية، وبالتالي لنتخلى، على الأقل في تنظيراتنا للدراما، عن مصطلح الموسم الدرامي الرمضاني، ونستبدله بمصطلح الموسم الدرامي في رمضان، لأن فصل صفة الرمضاني عن الموصوف الموسم الدرامي من شأنه أن يفتح مسارب جديدة للحديث عن الدراما التلفزيونية في رمضان، بعيداً عن كون الشهر الفضيل مناسبة لاجتماع العائلة واسترخائها أمام التلفاز، وتأتي الدراما لتلبي متطلبات هذه الأجواء، ولنقف فقط عند تزايد وتيرة الحالة الاستهلاكية التي ترتبط بهذا الشهر، وطموح القنوات العارضة للاستثمار فيها، عبر تقديم وصفة تسويقية تعتمد بالضرورة إشباع رغبات الناس وغرائزهم وحتى تعويض عقد نقصهم على نحو عام، وأقول (على نحو عام)، لأن دائرة الإنتاج بالذات لا تنتج لشهر رمضان، هي تنتج لتعرض في موسم يزداد فيه عدد زبائنها، صودف أنه شهر رمضان المبارك.. وإلا ما معنى أن تلعب هذه الدراما على حدود المحرم والمحظور والعيب وغير اللائق والجريء لتحظى بتسويق ونسب مشاهدة عالية."

لا صلة موضوعية
من جهته يرى الناقد أمين حمادة أن الدراما التلفزيونية لا تمت لرمضان بصلة موضوعية، مؤكداً أن صيغة الثلاثين حلقة تفسد القيمة الفنية لتلك الدراما، لأنها تفرض زمن القصة والسيناريو والحوار بغض النظر عن الأحداث والزمن الدرامي. ومن الواضح أن هذه الصيغة يعتمدها المنتج وقنوات العرض كعبوة على قياس أيام رمضان لتحقيق النسبة الأقصى من الربح الممكن، من دون أي ”حساب درامي“، ما يترتب عليه النتائج السائدة اليوم في الحشو و“الشط والمط“ .

تقديس المال وإملاءاته
السيناريست والناقد علي وجيه أوضح أن تقديس الدراما بمعناه السلبي، يتمحور حول نقطة واحدة هي السوق، أو لنقل حلقة رأس المال غير القابلة للكسر، فالصانع الدرامي تابع للمنتِج، المنتِج تابع للمحطة، والمحطة تابعة للمُعْلِن ولحساباتها السياسية والاجتماعية، وكل ذلك يلعب دوراً ينعكس على نوعية الدراما. يقول كاتب مسلسل "هوا أصفر" :"ثمة توجه من جميع المحطات أنْ أبْعِدْنا عن الجِّديّة الزائدة، والسوداوية، وعن القضايا، إذ يعتبرونها مستنقعاتٍ تؤثر على البيع، في حين أنهم يريدون شيئاً يُباع بسهولة وللجميع، من دون أي اعتراضات على المحتوى، ومن دون "أي وجع رأس،" خاصة أنهم يفهمون الدراما التلفزيونية على أنها ترفيه فقط، وهذا صحيح بجانب منه، لكن في الدراما السورية البحتة الأهم كان على الدوام هو ماذا تطرح؟ وهي نقطة خلافية بين الصناع والمحطات، إضافة إلى أزمة البيع التي عانى منها المنتَج الدرامي السوري نتيجة الحرب، وحُلَّت قليلًا هذا العام، إذا استثنينا منها المسلسلات الاجتماعية المُعاصرة الأصعب تسويقياً، لأن خطورتها تكمن أنها تحكي عن الراهن وتمس بقضاياه وأموره المُتشابكة سياسياً واجتماعياً."

دراما موازية
حمادة يبيِّن أنه لتبيان الأسود بعرضه مقابل الأبيض، يمكن الإشارة في الماضي إلى أن الجزء الأول من رأفت الهجان تألّف من 15 حلقة فقط وحقق ما حققه من نجاح عربي نادر، علماً أن معظم الأعمال في ذلك الحين لم تتجاوز ال 13 حلقة، وعالمياً في الحاضر، تراوحت حلقات كل موسم من ”لعبة العروش“ بين 7 و 10 حلقات. وفي مقارنة بالسينما، يتساءل: "ماذا لو قيدت الأفلام بعدد محدد من الدقائق؟ طبعاً النتيجة انتكاسة كبرى كالحاصلة في الدراما التلفزيونية .

 الحلّ يراه الناقد وجيه بالمنصات الدرامية الموازية، إذ يجري مُقارنة بين المحطات ومنصات العرض الإلكترونية مثل نتفليكس وغيرها، من ناحية حُرية الكاتب والقيود المفروضة عليه، قائلًا: "بالنسبة لوجهة النظر الإعلانية أو السبونسرية، فإن شهر رمضان هو شهر مشاهدة، لذا ببساطة مقاس الثلاثين حلقة مُحدد بغض النظر عن الموضوع وإن كانت الحكاية لا تحتمل هذا العدد من الحلقات، في حين أنه في المنصات الإلكترونية لا عدد حلقات محدد، وإنما يُكتَب المسلسل على مقدار ما تتطلبه الحكاية، خمس حلقات مثل تشيرنوبيل، أو غير ذلك.
 
 للأسف نحن لا نمتلك هذه الرفاهية، لذلك إما سيقع المسلسل الثلاثيني في الترهل، أو أن الكاتب سيكون بحاجة لتدعيم الحكاية بخطوط وتفرعات، وهو ما يأخذه بعض النقاد على السيناريو، بينما هو ميزة في أحيان كثيرة، لكن التحرر من عدد الحلقات بحاجة لمنصات موازية ومواسم موازية (الأوف سيزن) خارج رمضان، وهذا لم يتكرس في سورية بعد، على عكس مصر مثلًا، لذلك لا مناص من انتشار المنصات الإلكترونية بمقابل مادي وإنتاجي مجزي، لاسيما ما يتعلق بأجور الكتاب كحلقة أضعف في سلسلة الصناعة الدرامية دوماً، فأجرهم المادي قليل جداً مقارنةً بجهدهم المبذول، ولهذا يسعون لتسليم الحلقات الثلاثين في زمن قصير نسبياً، ولو على حساب الجودة، لأنهم لا يرون عدالة بين ما يحصلون عليه من أجر في مقابل الجودة الزائدة المتوخاة للنص، والمنتج بالعموم لا يقدر هذا الجهد."

الدراما المفيدة
يقول: "مع تراجع التناول القيمي، فقد المسلسل التلفزيوني دوره بالتأثير الإيجابي في مجتمعاتنا. في التجربة الدرامية السورية على سبيل المثال شهدنا خلال الربع الأخير من القرن تراجعاً للدور المعرفي ضمن العمل التلفزيوني، حتى كاد يختفي، بعد أن كان من مسلمات العمل الدرامي السوري، وأبرز مميزاته، حتى لو اضطر لتمرير هذا الدور باقتراح أشكال درامية جديدة، مثل الفنتازيا التاريخية.
وفي هذا الوقت كان الجدل يدور حول إن كان العمل الفني معنياً بتقديم أسئلة المشكلة فقط وطرحها للنقاش، أم إنه معني بتقديم أجوبة وحلول لها. بين هذا وذاك كانت الدراما السورية تنوس بين غايات مسرحَي أرسطو وبريخت، فمن صناعها من يختار حالة التطهير الأرسطي في مسار حكايته، ومنهم من اختار أن يأخذ المشاهد نحو التفكير والمحاكمة العقلية التي دعا إليها بريخت كغاية للعمل الفني.

في الحالتين كان الأعمال المنتجة تكرس الدراما السورية بوصفها دراما مفيدة، والحديث على هذا النحو لا يعني أنني أسقط عن الدراما وظيفتها الأساسية، أي الترفيه، بل بغياب الترفيه، بمعنى التسلية والتشويق والإثارة، لا يوجد دراما بالأساس ولكنني أعيب اليوم على هذا الترفيه انتقاله من خدمة المشاهد إلى خدمة المنتج. وأعيب على الدراما اكتفاءها بحيز الترفيه، لتقتصر علاقتها مع المشاهد على تسليته في دقائق معدودة، ينفض بعدها عقد الشراكة بينهما وكأنها لم تكن. ومع خفة المادة الدرامية المقدمة وعلاقة صناعها مع المشاهد التي باتت أوهن من بيت العنكبوت، لم يعد صانعو الدراما قادة للرأي عام، أو مساهمين في تشكيله، حتى لو اعتقدوا غير ذلك."

 ماهر منصور: عمليات بتر قسرية واغتصاب

يشرح الناقد ماهر منصور  كيف أساء النزوع للاستثمار الاستهلاكي عند القنوات العارضة وأدواتها التنفيذية من شركات الإنتاج، على مستوى الدراما التلفزيونية، ومضامينها وتوجهاتها، مبيناً أن: "التأثير في حالة الاستثمار الاستهلاكي ظهر بوضوح فيما يمكن أن نسميه بقولبة عقل التأليف الدرامي لإنتاج نصوص بمواصفات تسويقية محددة، وأحياناً لوجوه محددة، أما النصوص التلفزيونية التي تخالف تلك الشروط التسويقية، ويتمسك أصحابها برسالتهم الفنية والفكرية، فهي إما تنجو بنفسها مع مُنْتِجٍ بدرجة فنان، وإما تدخل الماكينة التسويقية لتخضع لعمليات بتر قسرية لتصبح على مقياس تلك المواصفات التسويقية، وهو ما لا أجد معنى دقيقاً للتعبير عنه، سوى كلمة اغتصاب التي تبرز في حالة التساهل بالتناول القيمي، على نحو لم تعد الرسالة القيمية تحتل العامل الحاسم في صياغة البناء الدرامي النهائي، باعتبار أن إثارة الحكاية ومتطلبات السوق والموضة وسواها عوامل أكبر تتجاذب الحكاية."
 
  كما يطرح منصور مجموعة تساؤلات في هذا الإطار: "بينما يتحول المسلسل التلفزيوني في العالم الغربي يوماً بعد يوم إلى واحد من مصادر الدراسات الأكاديمية، يستند إليه المؤرخون والباحثون في فهم ما يخص بلدانهم وشخصياتها، هل يمكن للدارسين في بلادنا تتبعه الجوانب ذاتها ودراستها في مسلسلاتنا العربية؟ وما هي نسبة المسلسلات العربية التي قدمت رؤيتها وموقفها من قضايا مجتمعية وسياسية وسط الكم الكبير من الإنتاج الدرامي العربي المشغول بقضايا استهلاكية تحت عناوين عريضة، هو مدى قدرة هذه المسلسلات على التحدث بلغة شارعها، وما مقدار تمثيلها له، وبالتالي ما إمكانية تواصلها معه، وتأثيرها به؟!"
 

 

شارك برأيك .. لتكتمل الصورة


استطلاعات الرأي

يجب ان تختار خيار قبل ارسال التصويت
هل تعتقد أن الوقت قد حان لبدء تطبيق الدفع الإلكتروني في سوريا؟
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني
النتائج
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني