ويبقى تأمين السكن لذوي الدخل المحدود "حلماً"

ويبقى تأمين السكن لذوي الدخل المحدود "حلماً"


ميساء رزق
 

 المواطن: طيب شو الحل؟ الموظف: لم يعد يوجد أي حل أمامك سوى أحد أمرين، إما أن تقوم بالسداد للمبلغ الجديد المعاد تقديره والمتوجب عليك خلال 48 ساعة وحينها فقط يكون بإمكانك البقاء كعضو مخصَص بالجمعية، أو أننا سنقوم بسحب التخصيص الذي خُصص لك ونرد إليك ما دفعته سابقاً ومن ثم نعرض النمرة التي كانت مخصصة لك إلى غيرك!
 
 هكذا بكل بساطة يُنهي هذا الحوار حلم راود عائلات كاملة من ذوي الدخل المحدود كانت في انتظار سكن تتوق للحصول عليه بفارغ الصبر، ولوضع المسألة ضمن حدود الواقع وشرح حقيقة الأمر الذي حرّم على الطبقة الفقيرة وذوي الدخل المحدود فرصة مجرد الحلم بمنزل ضمن الجمعيات السكنية الخاصة أو الحكومية، التقت المشهد البروفيسور عبدالله أوبان الخبير الاقتصادي والمحاضر بكلية الاقتصاد بجامعة تشرين ليشرح الأمر من وجهة نظر خبيرة تحلل القضية وتشرحها بموضوعية قبل وخلال الأزمة الحالية وتداعيات الحرب على شريحة عظمى حرمت من امتلاك سقف يأويها.
 
 تذبذب الدولار وارتفاع الأسعار أوقف التقسيط 
 ذكر د.أوبان أنه لو قمنا بتحليل المعطيات اقتصادياً ومن وجهة نظر تقنية لمعرفة من المسؤول عن هذا الغبن الذي لحق بذوي الدخل المحدود، فإننا يمكن أن نأخذ النقاط التالية بالاعتبار: في فترات الأزمات، المصحوبة خصوصاً بموجة ارتفاع شديدة للأسعار أو ما يُعرف بظاهرة التضخم الجامح ،hyperinflation فإن كثير من آليات البيع والشراء المعروفة السائدة في فترات الرخاء الاقتصادي لا تعود تعمل كالمعتاد، وذلك بسبب انخفاض قيمة العملة وحالة عدم الاستقرار وعدم الثقة التي تسود، وكذلك صعوبة الحصول على المواد والمنتجات أكان ذلك بشكل مباشر بسبب الدمار الذي لحق مباشرة بالبنية التحتية للإنتاج فقلص العرض المتاح من السلع والخدمات مما أسفر عن المزيد من ارتفاع الأسعار نتيجة زيادة الطلب عليها، أو بشكل غير مباشر وذلك بسبب تبعات الأزمة من عقوبات تحول دون وصول المواد الأولية، أو ارتفاع قيمة العملة الصعبة لشراء مستلزمات الإنتاج. 
 وكنتيجة لذلك، تتوقف في فترات الأزمات وعدم الاستقرار جميع أشكال البيوع الآجلة (والبيع التقسيطي هو أحد أنواع البيوع الآجلة) لصالح البيع النقدي نظراً لحالة عدم اليقين التي تخيّم على المناخ الاقتصادي العام، ونقصد بحالة عدم اليقين كمصطلح في حالتنا هذه: حالة عدم التأكد من قبل البائع حول إمكانية تحصيله واستيفائه للأقساط أو لبقية الأقساط وذلك نتيجة لتردي الأوضاع الاقتصادية والمالية والأمنية عادةً، إلا ان البيع النقدي لم ينج هو الآخر من تذبذب أسعاره وعدم وضوح رؤية محدديه على الرغم من زيادة تفضيله لدى عموم البائعين كما سبق وقدمنا وذلك نتيجة لزيادة الدوافع لدى كافة الأطراف لتفضيل السيولة والتي هي حالة لا يُلام عليها البائع (أكان منتجاً أو مقاولًا أو تاجراً) لأنه ببساطة يتوجب عليه استخدام المتحصلات النقدية التي قبضها من بيعه النقدي لشراء مواد أولية جديدة (بالنسبة للمنتج أو للمقاول) أو لشراء بضاعة جديدة (بالنسبة للتاجر) لأن موجة ارتفاع الأسعار التي شهدتها البلاد المعنية بالأزمة لم تسر فقط على مبيعات هذا البائع من سلع وعقارات وخدمات وإنما على مشترياته أيضاً، وكثيراً ما كنا نسمع عن أن سلعة ما قد تم التوقف عن بيعها على الرغم من توافرها ومن أن بيعها هو نقدي وفوري وذلك ريثما يتم تحديد أسعارها الجديدة في ضوء تقلبات الدولار. 
 
 ادفع أو انسحب! 
 ما عرضناه أعلاه، بقدر ما هو صحيح ويسري على السلع والخدمات، فهو يسري أيضاً على العقارات التي قام عشرات الآلاف من المواطنين بالتسجيل فيها على مقاسم بطريقة الشراء والبيع التقسيطي. وبموجب تلك الطريقة، يرتبط البائع مالك العقار بالمشتري في هذا النوع من أنواع البيوع بعلاقة هي استثمارية وتمويلية بآن معاً لمدة طويلة لا تنتقل فيها ملكية العقار إلى المشتري إلى أن يتم سداد جميع الأقساط، أي لا تنتقل فيه الملكية إلى المشتري ما لم يتم سداد القسط الأخير.
 وبافتراض انه لم تقع الأزمة، لما كان قد وقع اي إشكال في هذه العلاقة الارتباطية، إلا أنه بوقوع الأزمة وفقدان العملة المحلية لجزء كبير من قيمتها الشرائية، فإن مشكلة حقيقية وقعت بين الطرفين البائع والمشتري وهي ناجمة عن عدم إمكانية البائع قبول السعر السابق المحدد قبل وقوع الأزمة وذلك نتيجة لتغيير أسعار المواد بالنسبة إليه مما سيجبره على أن يعكس فروقات الأسعار على الأعضاء المكتتبين لكي يتمكن من أن يمضي قدماً في تنفيذ التزاماته تجاههم وتسليمهم مقاسمهم. 
 أما المشترون وهم المواطنون المكتتبون من ذوي الدخل المحدود والذين تم عليهم إعادة احتساب فروقات أسعار تتناسب مع تغيّر قيمة العقارات التي سيحصلون عليها عن قيمتها الأساسية التاريخية في بداية العقد، فهم قد سقطوا الضحية النهائية لتلك العملية، لأن خياراتهم باتت محدودة كما سبق وقدمناها في الحوار الافتراضي للطرفين في بداية الحديث، عملياً، كانت النهاية الدراماتيكية للقصة، باضطرار المواطن المكتتب من ذوي الدخل المحدود للخروج من العضوية مكرهاً وذلك لعدم توفر موارد كافية لسداد الفروقات المطلوبة، وفي هذه اللحظة بالذات فإن الفرصة تصبح سانحة أمام شخص آخر يملك المال اللازم، فيقوم بالشراء. 
 بكلمات أخرى: انتهى المطاف باستفادة أصحاب الدخل الغير محدود على أصحاب الدخل المحدود. 
 
 الفساد مجدداً 
 تجدر الإشارة، وقبل التوصل إلى رؤية عقلانية للحل، أن ما زاد الطين بلةً، هو قضية الفساد التي وجدت لنفسها أيضاً مكاناً في هذه القضية. وهنا نشير إلى نقطة في غاية الأهمية وهي حالات الفساد المنتشرة للكثير من الموظفين المتنفذين والذين هم في مواقع وظيفية تسمح لهم بتقديم وتأخير المطالبات تجاه بعض المكتتبين بحيث يجبرون من يريدون، وغض الطرف عن آخرين، وعليه، فإنهم عبر ممارسة ضغوط المطالبة الفورية على البعض ممن لا حول لهم لتسديد الفروقات المطلوبة، فإنهم يرغمونهم على الخروج من العضوية وذلك لكي يتمكنوا من بيعها إلى طرف ثالث راغب بالشراء في المقاسم المذكورة، إلا أنه وكما هو معلوم للجميع أن هذا الطرف الثالث (الدخيل) لم يقم فقط بشراء النمرة العقارية المعنية، بل إنه قام قبلها بعملية شراء أخرى، ألا وهي شراء لذمة الموظف المسؤول. 
 
 قبل الأزمة وبعدها 
 ولفت أوبان إلى أنه بعرض بسيط محاسبي لكل ما سبق، يمكن تقديم مثال:في حالة الوضع قبل الأزمة:بفرض أن ثمن شقة سابقاً قبل الأزمة كان: 3.6 مليون ل. س، وبفرض أن الاقتطاع الشهري من الراتب كان 30000 ل. س بهدف تمويل شراء تلك الشقة بطريقة الأقساط، فإن عملية بسيطة تسمح لنا بالوقوف على أن المدة المطلوبة هي 10 سنوات وتنتقل ملكيتها إلى المشتري، أما في حالة الوضع بعد الأزمة: على اعتبار أن أسعار العقارات قد تضاعفت عشرة أضعاف (وهذا ما حدث)، وعلى افتراض أن الرواتب قد أصبحت الضعف (وهذا لم يحدث) فإن المدة المطلوبة تصبح 50 عاماً، الأمر الذي لا يمكن للبائع قبوله لأسباب عديدة ليس أقلّها حالة عدم اليقين التي عرضناها من قبل وأسباب أخرى عديدة ترتبط بالضغط على رأس ماله العامل بسبب انخفاض السيولة المتوفرة بين يديه نتيجة أن أمواله التي يعمل بها قد أصبح معظمها داخل عملائه من المشترين واضطراره- هو نفسه - للاستدانة نتيجة تعطل أمواله المستثمرة لمدد طويلة، وأخيراً لا يمكن نسيان قضية استهلاك واهتراء العقار التي ستجعل من العقار في نهاية مدة التقسيط ( 50 سنة) في وضع مزرٍ تماماً حتى قبل تسليمه إلى المشتري.

التدخل الحكومي والحلول 
وإن كان ليس القصد من المثال السابق، إنصاف الجهة البائعة ولو حتى قليلًا، فإن المسؤول الأول والذي يمكن له التدخل للتخفيف من حدة الإشكال الواقع هو الطرف الحكومي والذي يمكن له القيام بإجراءات مؤقتة تأخذ بالاعتبار أولويات الوضع الراهن: 
الاقتراح الأول: القيام بمعالجة جدية حقيقية لظاهرة التضخم والتصدي لكل الأطراف المشاركة في تغذيته. وفي هذا الإطار، يوجد العديد من الإجراءات لتجارب دول شهدت حالات من التضخم الجامح يمكن الاستفادة منها. 

الاقتراح الثاني زيادة الرواتب بذات النسبة التي ارتفعت بها الأسعار، اي عشرة أضعاف. لكن لكي نكون واقعيين أكثر، وفي ظل عدم إمكانية تحقيق زيادة مهمة بهذا القدر في الرواتب والأجور وذلك بسبب عدم توفر الموارد اللازمة او بسبب الخوف من وقوع مزيد من التدهور الإضافي للقيمة الشرائية للعملة المحلية، فإن اسلوب زيادة الرواتب المخطط بالحقن على دفعات على عدة سنوات يمكن أن يكون من باب الحلول المؤقتة المخففة والغير مكلفة شريطة أن يتم وضع سياسة ضبط أسعار ورقابة مشددة وتحرير المخالفات لكل من يخالف بغية كبح جماح أي ارتفاع لاحق للأسعار. 

الاقتراح الثالث وهو ليس اقتراحاً بل ضرورة حتمية تتمثل في أولوية معالجة مواطن وبؤر الفساد المتعلقة بهذا النوع من العمليات، لأن الخاسر الأول هو المواطن من ذوي الدخل المحدود والذي يمثل معظم القاعدة الشعبية والحاضنة النظامية للدولة ومؤسساتها. 

وفي هذا المجال، فإن آليات محاربة الفساد الممكن استخدامها متعددة: 
من تعبئة الرأي العام لتشجيع المواطنين على الإدلاء بأي معلومات حول اي سلوك منحرف للموظفين المخوّلين، وتوفير خط ساخن لتلقي الشكاوي، الى تهيئة الرقابة الداخلية والخارجية الكافية على عملهم ومراجعة ملفاتهم، وتشكيل لجان متابعة لتقييم مدى موضوعيتهم في البت في قضايا المطالبات والفصل من العضوية. 

الاقتراح الرابع ضخ مزيد من الأموال نحو الجهاز المصرفي، ومنح التسهيلات للمصارف التي تقبل الدخول في تمويل هذا النوع من العمليات وحتى من الممكن إقحام مكاتب التطوير العقاري في هذه الأنشطة حتى لو ترتب عن ذلك بعض التكلفة يمكن للحكومة بمجالسها المحلية على مستويات المحافظات أن تتحملها مع المشتري الأصلي للعقار بدلًا من استبداله بمشترٍ آخر.
وإلا إن تعذر تطبيق الاقتراحات السابقة، فيمكن أن يتم الانتقال إلى الاقتراح الخامس. 

الاقتراح الخامس تعطيل مؤقت للاستمرار بالعمل على المشاريع العقارية ريثما تتم الخطوات السابقة وتعود الأمور لسابق عهدها. 
وأخيراً، ليس أيٌ من هذه الإجراءات لوحده كفيلاً بتحقيق اي إنجازات لإزاحة الغبن الواقع على ذوي الدخل المحدود والذين بات حلمهم بالحصول على بيت صعب المنال، بل لا بد أن تتضافر الجهود جميعها على صعيد الدولة والاتحادات التعاونية للسكن ومنظمات المجتمع المدني لتحقيق هدف واحد، 

سورية تتسع لابنائها جميعاً خصوصاً ممن هم من ذوي الدخل المحدود والذين جلّهم لم يبخل بتقديم أبنائه قرابين للتصدي لمؤامرة القرن، وآن لهم أن يشعروا ببعض أمان ضمن حدود أمتار قليلة كفيلة بمنحهم طيف سعادة.

 

شارك برأيك .. لتكتمل الصورة


استطلاعات الرأي

يجب ان تختار خيار قبل ارسال التصويت
هل تعتقد أن الوقت قد حان لبدء تطبيق الدفع الإلكتروني في سوريا؟
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني
النتائج
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني

الأكثر مشاهدة هذا الشهر