"رحل د.تيزيني"  بقيت الفكرة

"رحل د.تيزيني" بقيت الفكرة

محمود عبد الكريم
رحل د.طيب تيزيني المفكر السوري الجريء المنتج الخصب للمعرفة في زمن سيطرت فيه ثقافة الاستهلاك والتمجيد والتورية، عرفته عن قرب كإنسان وكان له مكانة في قلبي ككائن عاطفي لدي حساسية خاصة تجاه من أحبهم إذ من الصعب بل من شبه المستحيل أن أنقلب عليهم.

في آخر برنامج أنجزته أوراق النهضة عام 1998 حلَّ ضيفاً في حلقات عديدة من الخمسين ساعة التي طرح فيها سؤال مركزي: لماذا فشل مشروع النهضة العربية الذي بدا نموه في أوائل القرن التاسع عشر؟ مرَّ على حلقاته أكثر من مئة وعشرين مفكراً ومؤرخاً وباحثاً وفيلسوفاً من بلدان عربية عديدة وعلى وجه الخصوص من سوريا ولبنان ومصر لأنها كانت أرض المشروع النهضوي وكان رجالاتها من تلك البلدان صحافةً وأدباً وفكراً وتعريباً وتأليفاً وتعليماً لم أترك قصاصة استطعت الحصول عليها إلا وظفتها للإجابة على هذا التساؤل والذي مايزال قائماً ومشروعاً ومعاصراً.

أكثر من مفكر ومنهم الدكتور طيب تنبؤوا بالحال الذي وصلنا إليه الآن ، وإلى حدٍّ كبير اتفقوا في توصيف الأسباب: اغتيال العقل بالنقل، الطغيان، التخلف الشديد للبنى الثقافية والسياسية والاقتصادية كحصاد مر لاربعمئة سنة من الاستبداد التركي العثماني الغاشم الذي كان من أقسى ارتكاباته نهب الثروة العربية بل تقحيطها ومنع العرب حد القتل من الاتصال بالخارج لأول مرة في تاريخهم وبالتالي تحويل شعوب المنطقة إلى عبيد وإسدال ستار أسود كثيف على عقولهم وعلى إمكانات نهوضهم وبقسوة لا توصف: فساد، خمول، مدمر على العقل العربي، واستكان بعد مذابح مهولة ارتكبت بلا هوادة كما سحقت كل محاولة مهما كانت بسيطة لأي نماء فكري أو سيولة معرفية والأدهى سحق أية إمكانية لتنمية الثروة العربية بمنع التجارة والتبادل والتثمير فتحولت المرافئ العربية العامرة بسفن العالم إلى ملاذات لمراكب صيد السمك الصغيرة البائسة.

أذكر المقاربات التي طرحها د.طيب حول هذه الأطروحة الإشكالية ومدى حماسة للأفكار المتجددة ونشاطه الذي لايهدأ لإنتاج المعرفة ويقينه بأن النهوض قادم لامحالة ، رغم أن الكلفة ستكون كبيرة جداً وستعبر في أنفاق حالكةٍ ورطبة وقد تصاب لفترة بعماء كالذي تابعناه على الهواء مباشرة.

تحدث عن التجربة المصرية التي بدأت مع محاولة محمد علي في مصر بالتزامن مع المحاولة اليابانية التي نجحت بشكل مبهر ، حتى أن بعثة يابانية جاءت إلى القاهرة لتنهل من التجربة المصرية التي وبسنين قليلة أنجزت فوق المتوقع منها في الصناعة والزراعة والعمران والأسطول والصناعات الحربية والجيش كنسق مؤسساتي منضبط، لكن التحربة سقطت بعوامل خارجية أساسا وداخلية أيضاً.
أما الداخلي منها فبرز بعدم استعداد التجمع البشري للخروج من الأنساق المعرفية للعصور الوسطى لكن الضربة القاضية جاءت من الخارج، بالغزو المباشر الفرنسي والبريطاني الذي مارس نهباً أكثر تنظيماً للبلدان المستعمرة ولم يعر أي اهتمام للنمو المعرفي والحضاري والاقتصادي لشعوب المنطقة، وربما كان بعد اليابان سبباً في نجاتها من الانقضاض المباشر عليها وتحطيمها عسكرياً كما جرى عندنا.
اتفق معظم المفكرين الذين شاركوا في ذلك البرنامج عموماً فيما يخص أسباب فشل المشروع النهضوي الذي تحول إلى قضية سياسية مباشرة أواخر القرن التاسع عشر وتم الانتقام الجسدي من طلائعه في أيار 1916 حين أعدمهم جمال باشا وعرفناهم باسم شهداء أيار لكن البوليس العثماني أعدم عشرات الآلاف الذين لم نعرفهم .
كما قتلوا بالتجويع والحصار والإبادة الملايين وما أن سقط العثماني بنسختية الإسلاموية والطورانية حتى انقضت جيوش بريطانيا وفرنسا دون أي فاصل زمني لاحتلال المنطقة وما أن رحلت في منتصف القرن الماضي حتى جاءت إسرائيل لتكمل المهمة، وهنا بدأ صراع ضار وحاد طاول كل شيء تصارعت الأحزاب والأفكار والبرامج، صعدت قوى وقيم وسقطت أخرى ثم انكشفنا تماماً البعض منهم يقدم الطغيان السياسي باعتباره الكارثة التي حطمت السياق الطبيعي لتطور شعوب المنطقة وآخرون يقدمون التبعية للغرب الإمبريالي وآخرون يركزون على الدور المدمر لإسرائيل وكل منهم لدية أطروحة شبه مكتملة لإثبات أهلية فكرته والبعض منهم كان يقدم الموروث المتخلف كصخرة تقف بثبات أمام أي محاولة تقدم أو نهوض تلك الاختلافات أو التباينات في الرؤى وأمام العجز العميق تحولت عبر تداعيات الحرب السورية وما أطلق الغرب عليه الربيع العربي إلى صدامات تناحرية، وللأسف الشديد، وأمام هزيمة العقل عن التحليل الهادئ انفجر بعضهم بحدة ضد من اعتبرهم الآخرين المختلفين دينياً ومذهبياً دون أن يخضع عقله لتروي العاقل، فما بالك بالمثقف أو المفكر أو الفيلسوف الذي ترك نكوصه أو استعجاله أو غضبه العارم ندوباً قاسيةً أطفات الكثير من الشموع التي كانت تعتبر ملاذاً واهياً في العتمة الحالكة لن أستعرض الأسماء فهي معروفة وإن كنت استغرب من بعضها وبعد هذه السنين القاسية احتفاله الفيسبوكي بكراهية الآخرين بلا رحمة أو تفكيك لا بل بغضاء تخفي رغبة الإبادة للنسق بأكمله،

وهذا أقل مايقال فيه إهانة العقل والدوس الفاجر على البصيرة كان مؤلماً أن أقرأ ذلك على صفحة لمفكر يصر أنه فيلسوف ولا أدري كيف تجتمع الفلسفة أي الحكمة بالتبجح كمفردة وبإعلان الكراهية النهائية القرينة التلقائية لأمر الإبادة تجاه نسق ديني ومذهبي برمته وبدون تمييز أو حتى تبرير.

لم أطلع على مواقف د.طيب الأخيرة لكنني قرأت له لقاءاً اتسم بمسؤولية عالية كما يليق به، كما قرأت بعض التعليقات في منشورات على فيسبوك على مواقف أو مقالات بصراحة تامة لم أصدقها وأميل أنها نحلت على لسانه لأنها تشبه مقولات الإخوان المسلمين الذين لم يبغضوا سوريا كما أبغضوه وأعرف أنه مرض في السنوات الأخيرة وأصيب كما سمعت بآفة النسيان والضياع "الزهايمر" مما لايرتب على المصاب به مسؤوليات.
موضوعياً لن أعفي نفسي من انفعالات حادة ألمّت بي وبسواي خلال تداعي مآسي هذه الحرب المهولة التي شهدت شناعات وفظائع تخرج الحجر عن طورها. وإن لم يكن ذلك مبرراً لي ولسواي لكنه يفهم في سياق لحظته. فلا ملائكة في الحروب. بل الشياطين هي التي تتقدم في التعبير أحياناً فتصعق العقل الذي يمضي حزينا في حيرته وينزوي مدحوراً أمام هول المشاهد ويقينية الدم المراق حيث تقفز غريزة القطيع وتتغاوى بلا معقوليتها محتفلة بتمردها على المنطق في حمى الكارثة وسيطرة الكابوس؟؟ في أيَّة حرب وعلى الأخص في الحروب الداخلية الأهلية يذبح المنطق ويتحطم العقل وتذوي الأفكار وتفر الرؤى الخلاقة مذعورة أمام حاملي البنادق والسواطير الفكرية والحديدية.

لا أبرره لكنني أفهمه لأنني مررت به ولو للحظة مع أنني أزعم أنني محصن بمواجهته فاضع الآخرين الذين أهاجمهم مكاني باعتبارهم من لحم ودم ومشاعر وذكريات وأصدقاء وجيران وأقارب وأرزاق دمرت ونهبت وعالم انهار فأصرخ للحظة محملاً الآخر مصيبتي دون أن انتبه أنه مصاب مثلي وربما أكثر مني ومن قال إن المفكرين لا يصرخون مثلنا نحن العاديين؟

هذه الحرب وجهت طعنة قاسية للوعي الشخصي والجمعي وماتزال وهنالك إصرار على استمرارها كي لايتقدم الوعي لتفكيك مجرياتها وفهمها وإدراك خسائرها كمقدمة للخروج منها هنالك إصرار من قوى عالمية وإقليِمية ومحلية على بقائها مشتعلة لأن يقظة الوعي الجمعي تعني معرفيا استعادة الإمكانية لنهوض جديد. وسياسياً التفكير العميق بإنتاج بنية لايمكن هدمها. واجتماعياً عودة النهر إلى المجرى ليكون قادراً على تنظيف المستنقع حيث جنة الحشرات والديدان والافاعي.

وهذا ينسحب على كل شيء لكل ذلك لن أصدق أن الدكتور والمفكر الصديق الودود والرحيم انحاز إلى شبهات حاربها طيلة حياته وبكل ما أوتي من قوة عقلاً وأخلاقاً وفكراً وسلوكاً حتى إذا أفلتت منه صرخة في لحظة انفعال عارم.

نحن بشر ولسنا ملائكة ولن أرمي على ذكراه إلا ما في قلبي له من ورد المودة والحب والاحترام والصداقة مفكراً ومنوراً شجاعاً كنا نلوذ به في وجه الظلام والظلاميين وهو هنا بالضبط وليس في مكانٍ آخر.
لروحه العذبة النبيلة النزيهة الرحمة والتحية والسلام أبداً. ستبقى ذكراه مضيئة دائماً.
د.طيب تيزيني راحلا إلى سمائك باقٍ في وعينا وضمائرنا
لك السلام

شارك برأيك .. لتكتمل الصورة


استطلاعات الرأي

يجب ان تختار خيار قبل ارسال التصويت
هل تعتقد أن الوقت قد حان لبدء تطبيق الدفع الإلكتروني في سوريا؟
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني
النتائج
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني