"فيسبوك" قدحٌ وذمٌّ وتشهير وقذف

"فيسبوك" قدحٌ وذمٌّ وتشهير وقذف

جهاد عيسى

يحصل خلاف شخصي أو مهني بين موظَّفَين، أو بين موظف وإدارته، في مؤسسة أو شركة أو دائرة ما، فيستلُّ المختصمان صفحتيهما "الفيسبوكيتين" المنشأتين بأسماء حقيقية موثقة أو وهمية مستعارة، ويطلقان معركة "المنشور بالمنشور والبادئ أظلم".  
يصاب موظف بإحباط ما من سياسات مؤسسته (التي يعمل فيها) وقراراتها على المستوى العام، أو يشعر بغبن وتهميش على المستوى الشخصي، فيقفز إلى صفحته "الفيسبوكية" ليقدم مطالعاته وآراءه مرفقة أحياناً بصور لممارسات ضمن المؤسسة، أو صور لنسخ عن وثائق أو مستندات أو قرارات أو عقود تخص العمل ضمن هذه المؤسسة قد تتضمن أسماءً وأرقاماً وجهاتٍ، ليختم منشوره بخلاصات واستنتاجات وتوجيهات للرأي.   
في كثير من الأحيان يتم استخدام الصفحة الفيسبوكية الشخصية، ويتم في أحيان أخرى (ليست بالقليلة) اللجوء إلى صفحات متخصصة الهوية أنشئت تحت عنوان كشف الفساد ومحاربته أو نشر الفضائح وتعرية أصحابها (وما أكثرها)، سواء تلك التي تتيح لأعضائها النشر مباشرة (وبأسمائهم) أو تلك التي تتلقى القصة ووثائقها ومستنداتها وصورها وتتولى إدارة الصفحة نشرها وتحويلها إلى قضية أمر عام.
لا يقتصر الأمر على الخلافات التي يكون فيها أحد الطرفين (أو كلاهما) من ضمن الأسرة الوظيفية الواحدة، بل يتكرر الأمر ذاته مع قضايا الشأن العام أو القضايا ذات الوجع العام، سواء فيما يتعلق بعمل البلديات أو الوحدات الإدارية أو الهيئات والمؤسسات الحكومية والوزارات والأحزاب.
تقتضي الموضوعية هنا أن نقول أن ماينشر في جميع هذه الحالات، لا يخلو من الحقائق والافتراءات،  الوقائع والافتراضات، المثبتات والمتخيلات، الكلام الرصين العلمي والسباب والشتائم الشخصية, وبالتالي نلاحظ في الآونة الأخيرة أن الأمر لايقف عند حد السجال الفيسبوكي، ففي بعض الأحيان (وهي لا زالت قليلة قياساً بكم "الإسهال" أو الاستسهال الفيسبوكي)، يلجأ المتضرر من بين الطرفين المتصارعين (وفي بعض الحالات الطرف الأضعف حيلة في الرد وتحصيل حقه بيده) إلى الوسائل القانونية أو القضائية للادعاء، سواء بذريعة عدم صحة الكلام المنشور ووضعه تحت خانة القدح والذم والتشهير والقذف، وسواء بذريعة استحضار ثغرة، نقطة ضعف، غلطة أو هفوة شخصية للطرف المقابل بحيث يصبح الملف في مواجهة الملف، فيتخذ الصراع هنا بعداً آخر، ويبدأ الحديث عن توقيف ناشط بسبب رأي على صفحته الفيسبوكية، ملاحقة صفحة (أو إيقافها) بسبب منشور يوهن "عزيمة الأمة".
كثيراً ما تتحول هذه المنشورات إلى قضايا رأي عام، وتنطلق كتابات منقسمة بين (مع أو ضد)، وتبدأ حملات مشاركة المنشورات من كلا الاتجاهين، وقد يصل الأمر حد إنشاء الحملات والصفحات التضامنية مع "الأبطال" الافتراضيين من الطرفين، وتتطور الأمور إلى مستويات ربما لم تكن تخطر في بال أي من الأطراف الأساسيين في هذا الصراع من الحديث في الوطنية والتخوين وحرية الرأي وكم الأفواه والأيادي المشبوهة والفتن وغيرها من صراعات تجد لها تربة خصبة في وجدان هذا "الرأي العام".
ومنذ اللحظة الأولى أو المنشور الأول "وفي جميع الحالات السابقة تقريباً" تتلقف منصات الإعلام الإلكتروني (بشقيها المرخص المعروف الهوية أو المهرب تهريباً من خلف أبواب وغرف وشاشات حواسيب مجهولة) الخبر، وتمسك بزمام المبادرة، وتتولى النشر والترويج، (وهذا ليس أمراً غريباً) فالإعلام الإلكتروني على مايبدو أنه قد طور مفهومي العمل الميداني والاستقصاء ليصبح ميدانه الأساسي (وفي بعض الأحيان الوحيد) هو صفحات التواصل الاجتماعي، وغدا يستقصي الخبر من منشورات الصفحات الشخصية أو العامة أو من تعليقات المشاركين.

الطامة الكبرى هي أنها تنشر الخبر وتروجه وتتابع تطوراته لحظة بلحظة (سواء تشكلت لديها قناعة بالروايات أم لا)، وربما تتحول بحد ذاتها إلى مشارك شخصي في الحملات أو الحملات المضادة عبر ميول صحفييها ضاربة عرض الحائط قواعد المهنية الإعلامية والصحفية، من ضمن سياسة انتهازية تقوم على أنه، إن كان الأمر صحيحاً نكون قد حققنا سبقاً صحفياً وانتشاراً واسعاً (وربما غير ذلك مما لا أطيق قوله)، وإن تبين لاحقاً أنه كاذب أو خاطئ نكون قد "رضينا من الغنيمة" بالانتشار على الأقل (ولتذهب المهنية والمصداقية إلى الجحيم)، ولا نكون مبالغين إن قلنا أن دخول المؤسسات الإعلامية الإلكترونية على الخط غالباً ما يكون له أثر جذري في تسعير هذه القضايا (كل حسب أجندتها) بالنظر للمصداقية المتوقعة لعملها من قبل القارئ ونقلها الأمور من الحيز الشخصي إلى الحيز العام.
من موقعي كمراقب خارجي قسرته قواعد اللعبة التكنولوجية "البغيضة" التي جعلت تواجد منصات التواصل الاجتماعي قدراً لا مفر منه، أراقب حفلات "الجنون" التي تتكرر يومياً، ولكنني لا أنخرط فيها رغم مصداقية بعضها والحق الظاهر فيها، وأما سبب عدم الانخراط، فهو عملاً بمقولة الأستاذ حسن. م. يوسف الذهبية: "إذا جن ربعك، مافي غير عقلك بينفعك"، إذاً وبعيداً عن هذا "الجنون" ومن منطق يعيد الاعتبار للعقل أقول:
_نعم، كثير مما يكتب على صفحات الفيسبوك الشخصية أو العامة، سواء من قبل ناشطين ذوي أجندة أو من قبل أشخاص بسطاء جهلاء تأخذهم العاطفة والحمية والاستسهال والجهل بالقانون، هو قدح وذم وتشهير وقذف بالمعنى القانوني ويستوجب من صاحبه دفع ثمن جهله أو عنجهيته (أو موقفه إن اعتبرنا الأمر موقفاً نضالياً) إن وجد من يحرك القانون ضده.
_ القانون والحق العام والخاص ليس مادة انتقائية، فمثلما أن القضاء والجهات المعنية تتحرك بناء على ادعاء تشهير وقدح وذم (وقد أقررنا بذلك)، فليتحر أيضاً في مضمون ماحصل فيه هذا الادعاء فلربما تضمن جريمة أكبر من هذا القدح والذم والتشهير، وليتحر فيما هو حقائق ووقائع ووثائق ومثبتات كي يعزز مصداقيته عندما يتحرى عن الافتراء والتشويه والكذب.
_الإعلام مسؤولية، والكلام عن "وهن عزيمة الأمة" هو كلام صحيح، وهي ليست تهمة مختلقة من قبل المشرعين (وإن كان تطبيقها وإسقاطها يشتبه في انتقائيته)، فلينظر الإعلام فيما يقدم، وليعد الإعلامي إلى عقله لا إلى غرائزه وأهواءه عندما يكتب، وليستند إلى ثقافته ولينظر إلى منظومة القيم الفردية والجمعية قبل أن يطمح لأن يتحول إلى قائد رأي عام.
أخيراً نقول، لن يكون لدينا حرية فكر ورأي وتعبير قبل أن ندرك معنى هذه المفاهيم ونتفق على حدودها ونبني ونحترم ما يحصنها.

 

شارك برأيك .. لتكتمل الصورة


استطلاعات الرأي

يجب ان تختار خيار قبل ارسال التصويت
هل تعتقد أن الوقت قد حان لبدء تطبيق الدفع الإلكتروني في سوريا؟
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني
النتائج
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني