كلاب مدلّلة وأراكيل

كلاب مدلّلة وأراكيل

خليل صويلح

أفرزت الحرب قيماً جديدة تسرّبت نحو السطح على مراحل تسلّلت من الأزقة والشوارع الخلفية إلى الواجهة لتفرض حصتها من العنف، و العنف هنا ليس لفظياً فحسب، أو حالات من التنمّر، إنما هو عنف جسدي، عراك مباشر لأوهى الأسباب، بوجود ذرائع كثيرة للتفوّق على الخصم المتخيّل.

تحدث خناقة في الميكرو باص من أجل احتلال مقعد، أو من أجل خمسين ليرة مهترئة أعادها السائق لأحد الركّاب، مشادة مع سائق التاكسي، وأخرى بسبب غش ارتكبه أحدهم أثناء لعبة طرنيب في المقهى، هناك أيضاً، ارتطام كيس زبالة ألقى به أحدهم من البلكون نحو الشارع، ثم مرور سيارة في ليل متأخر وهي تبث أغنية بصوتٍ عال يخترق الجدران والنوافذ، وسنسمع بشكلٍ عابر عن مطعم يقدّم لزبائنه لحم الحمير(شاورما الغباء)، فيما تحتشد مواقع التواصل الاجتماعي بقصص مسليّة عن الفساد لفرط غرائبيتها وحبكاتها المشغولة بإتقان.

الفساد تحوّل إلى كائن لطيف لا يثير استياء أحد، والرشوة مطلب جماهيري لتسيير المعاملات الحكومية بيسر ، موظفون يطلبون ثمن أتعابهم بصراحة ، ولم يعد وارداً أن تضع ورقة نقدية بين الأوراق الثبوتية، بإمكانك اعتبارها جزءاً من الطوابع والرسوم. هناك أيضاً تصدير الشعارات الوطنية لإسكات الآخرين بالضربة القاضية، وذلك بإعادة إنشاء مواضيع التعبير المدرسية بنبرة مغنيي الملاهي، وبأخطاء لغوية فاحشة. هناك أيضاً مثقفو ومثقفات البكالوريا شحط والتعليم المفتوح في مناصب لم تكن لهم يوماً، يملؤون الفراغات بفقاعات الهواء وأجنحة الطواويس لتوطين الجهل.

لحظة شعبوية تطرد ما عداها بمجسّات ضخمة وأذرع أخطبوطية وأنياب تلتهم كل ما يعرقل سطوتها وفرض شرعيتها و"جمالياتها"، خلائط من الأفكار البائتة والمستعملة لإعادة انتاج التخلّف وشرعنة العنف والخراب الروحي، في مواجهة أية فسحة مبتكرة، وذلك بهجاء النخب وازدراء المعرفة، مطحنة شعبوية تعمل بكامل قدرتها على إضفاء شرعية على التفاهة بوصفها مطلباً شعبياً مقدّساً، هكذا أصبحت النزهة مع كلب مدلّل، أو تربية قطة في المنزل بديلاً عن العلاقات البشرية ( منذ فترة قصيرة أعلن أحدهم على مواقع التواصل الاجتماعي عن مكافأة قدرها مليون ليرة سورية لمن يجد كلباً ضائعاً يدعى تيتو).

لا نعلم إن كان هذا الكلب قد عاد سالماً لصاحبه، أم أنه مازال يعيش صدمة نفسية كمتشرّد بين متشردي الحدائق والأرصفة من البشر، فظاهرة اقتناء الكلاب من السلالات الفاخرة والاعتناء بها، تأتي بالتوازي مع تفكك العلاقات الأسرية وانتشار البغضاء بين البشر، لمصلحة الفردانية والتشاوف الطبقي وتمجيد العزلة مع كلب أو قطة أو كنار أو ببغاء في قفص، طبقة هجينة فرضت نفسها على الشارع العمومي بقوة النهب والعنف والسرقة، باندحار وانتحار الطبقة الوسطى في وضح النهار، بإخلاء الساحة لهذا السيرك المتجوّل الذي سيفرض وجوده وقيمه المبتذلة بعنفٍ أكبر كنصّ أصيل في مدوّنة الحياة اليومية، وسوف يجد مقاولين ثقافيين لتمكينه من الإعلان عن ذاته، وذلك بتغليف الانحطاط والتفاهة والتنمّر بالشوكولا الفاخرة للبلاغة اللغوية، لإخفاء ماضيه ودفنه عميقاً في الآبار المهجورة.

وهناك أيضاً، ظاهرة الأركيلة التي اكتسحت المقاهي كوصفة ناجعة لتبديد الوقت، وتسرّب الأفكار الخرقاء من نافورة الماء الملوّث إلى نافورة الرأس، لاستعادة زمن التنبلة العثمانية بكامل أركانها، وسوف يلتقط مقاولو المتعة الفكرة بالإعلان عن خدمة توصيل الأراكيل إلى المنازل، كما ستتسلل إلى مواقع تصوير المسلسلات التلفزيونية، إذ لم يعد مستغرباً جلب أركيلة للمخرج وهو يدير لقطة من وراء المونوتور، قبل أن يوافق على صلاحية المشهد بنكهة التنباك والمعسل.

شارك برأيك .. لتكتمل الصورة


استطلاعات الرأي

يجب ان تختار خيار قبل ارسال التصويت
هل تعتقد أن الوقت قد حان لبدء تطبيق الدفع الإلكتروني في سوريا؟
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني
النتائج
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني