سر  المبروكين  وما نسيه الحلبيون في الجامع الكبير !

سر المبروكين وما نسيه الحلبيون في الجامع الكبير !

حلب ـ مصطفى رستم

بصوتٍ مرتفعٍ، يتلو "الحاج عبد القادر" آيات من "القرآن الكريم" على قارعة الطريق، هيئته توحي للوهلة الأولى أنه من متسولي الطرق، لا يطلب العون أو يستجدي، لكن المارة تدس بيده بعض النقود، وحدهم أهالي حلب (العتيقين) يعرفونهم جيداً قبعة بيضاء وعصا وسبحة وجلباب أبيض من الممكن أن يكون مرتدياً نظارة سوداء أو بدونها، الثياب الرثة توحي أنه متسولاً عادياً بل هو من عميان الجامع الذي عاش بين جدرانه لعقود طويلة من الزمن "أفتقدُ الجامع وجدرانه وأعمدته، أسند ظهري على أعمدته وأنسى الدنيا لأقرأ القرآن، كنا نعيش من صدقات المحسنين، لقد تشردنا بالطرقات والشوارع".
القراء العميان، بجامع "زكريا" كما يحلو لأهل المدينة تسميته بهذا الاسم لوجود مقام النبي "زكريا" وسط الجامع، هم عاشوا بين ثناياه، والجميع يعرف قيمته الأثرية والدينية، هدمت مئذنته والعالم أجمع عرف بحجم الضرر الذي أصابه ورغم الضجيج الإعلامي الذي رافق دماره ويتم إعادة ترميمه من جديد من خلال خبراء مهندسين وخبراء وعمال فنيين إلا أن الجميع نسي من كان يعيش بين حجارته.
 إنهم العميان "المبروكون" وهي تسمية تصغير لكلمة "مبروك" التي درجت العادة على أن  يطلق الحلبيون هذا اللقب عليهم ويتابع "هيثم أنيس" الذي عمل في متجر في سوق من أسواق المدينة القديمة القريب من الجامع لـ المشهد:
 "  يطلق عليهم أهل المدينة القديمة هذا الوصف، فهؤلاء كانوا يجمعون صدقاتهم من أهل الخير، أو من القادمين للعبادة، ويبلغ عددهم ما يقارب 20 مبروكا من العميان أو أكثر تشاهدونهم يتجولون بالعصي أو يقودهم ولد صغير داخل باحة المسجد ويسندون ظهورهم على جدرانه يأتيهم الناس بالطعام والمأكل والملبس والنقود ويطلبون منهم أن يتلوا لهم آيات من القرآن على أرواح موتاهم".
لم تقتصر العلاقة الطيبة بين الناس والعميان لهذا الحد فقط بل تعدت لأن أصبحت هذه العلاقة جزءاً لا يتجزأ من هُوية المكان الذي يتفرّد به الجامع الكبير عن بقية جوامع، ومساجد المدينة إنهم العميان هؤلاء الناس كانوا بمثابة أحجار الجامع البشرية يسندون أجسادهم على حجارته وهم جالسون صفاً واحداً في مشهدٍ لا تراه إلا بالجامع الكبير أكثرهم عميان إما يمسكون عصاهم بأيديهم، أو يقودهم طفل صغير، ويضعون وشاحاً لجمع المال.
"يأتي الناس للعميان المباركين وأغلبهم من النساء، فتجد امرأة تطلب من قارئ أعمى أن يقرأ لها سورة من القرآن، أو تقدم له الطعام وفاءً لنذر قد نذرته، حتى أن أصحاب الدكاكين والمتاجر وتجار المدينة المعروفين بثرائهم كانوا يقدمون لهم المساعدات المالية كنوع من التقرب من الله.
 "يضع سره بأضعف خلقه" بهذه الكلمات يقول تاجر حلبي كان يواظب على زيارة الجامع يومياً للصلاة وكان يراقب عن بعد العميان يقول عنهم أنهم مُدهشون خصصت لهم أماكن إقامة للعيش فيه ومن يملك بيت أو غرفة خارج الجامع يأتي طوال اليوم وبدون كلل او ملل يتلو القرأن ويكسب رزقه ويعود إلى بيته أخر اليوم، وأغلبهم يحفظ القرآن كاملاً.
دمار الجامع فرقهم، ونسيهم الناس، هكذا وبألم يقول "الحاج عبد القادر" عن حالته وحالة رفاقه من عميان الجامع يضيف: "أغلب رفاقي العميان هاجروا أو سافروا ومنهم من مات ورحل عن الدنيا وقليل منا بقي في شوارع المدينة نتلو القرآن ونعيش على الصدقات كما كنا فلا مهنة ولا عائلة لي،، ولا دخل أعيش منه!! حالتي يرثى لها، كم أتمنى أن أبصر فقط لأشاهد الجامع وأعود كما كنت أعمى لأعيش ما تبقى لي من حياتي فيه وأرحل وأنا مرتاح الضمير بين حجارته".
مشاهد دمار المدينة القديمة بحلب اعتصرت القلوب (الأسواق القديمة، الجامع الكبير، الخانات، محيط القلعة وغيرها) نالت ما نالته من الحرق ودمار حجارتها، وتراثها الذي صنف على لائحة التراث العالمي، ومن هذا الاماكن جامع حلب الكبير، الذي نال الدمار الأقوى على الإطلاق، وليتساءل كل من يعرف الجامع الكبير عن أناس شكلوا هوية الجامع إنهم (العميان).
دمرت مدينة حلب على مر التاريخ، وبعد كل دمار تعود من جديد لتنهض، لكن الدمار الأخير كان الأصعب على مدينة عُرف عنها الصناعة، التجارة، الثقافة، الفن والطرب ولعل أكثر المواقع التي نالت التخريب هي المدينة القديمة التي تمثل لأهل حلب كل الجمال ورونق الحضارة الثري، حتى بدت حلب المدينة كعروس مدن الشرق.

 

 

 

شارك برأيك .. لتكتمل الصورة


استطلاعات الرأي

يجب ان تختار خيار قبل ارسال التصويت
هل تعتقد أن الوقت قد حان لبدء تطبيق الدفع الإلكتروني في سوريا؟
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني
النتائج
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني

الأكثر مشاهدة هذا الشهر