من مذكرات مدَّرسة (4)

من مذكرات مدَّرسة (4)

ماري عربش
من الفارس الذي امتطى جواده العربيّ وامتشق الشِّعر سيفاً عابراً الفيافي شاغلاً الناس ومالئاً الدنيا
أوراق المذاكرة الأولى للصف الثاني الثانوي في ثانوية بنات دوما أمامي والقلم الأحمر بيدي يحاصر الأخطاء اللغوية ويلاحق النحوية ويخطّ تحت الضعيف الركيك من العبارات والجمل ...
والزوايا السوداء تخفي الأسماء متراكمة بعضها فوق بعض، إلى أن فاجأتني هذه الكلمات في مستهلّ إحدى الأوراق .. أسرعت في تمزيق هاتيك الزاوية
الاسم: حنان ...
وارتسمت أمام عينيّ صورة تلك الطالبة الخجولة المهذّبة الطموحة التي تجلس في المقعد قبل الأخير وتكاد لا تحيد نظرها عني وعن السبورة
أذكر تماماً كيف استعجلت وصولي في اليوم التالي إلى الشعبة الثانية متأبطة أوراق المذاكرة وبعد إلقاء التحية قلت تفضلن بالجلوس و حنان ... تعالي إليَّ
الكل يرقب وحنان تسير نحوي بارتباك
اصعدي اصعدي
ضممتها إلى صدري وبصوت مسموع
أديبة أنت يا حنان أديبة ولا شكّ
تفضلي بقراءة موضوعك
وراح صوتها المتهدّج يتردّد في تلك القاعة ليحمل الكلّ إلى فسحة واسعة من الخيال الأدبي الممتع مع رشاقة عباراتها المفعمة بالمشاعر الصادقة وكلماتها الأنيقة الحلوة الموحية السليمة
تصفيق لحنان .....
لم تدع حنان الموقف الذي غمر قلبها بهجة يمر مرور الكرام
ففي اليوم التالي على استحياء دسّت في يدي ورقة منتزعة من دفترها ، وبعجالة قرأت كلماتها التي ما زالت محفورة في ذاكرتي : هل شعرت يا آنستي بدموعي التي انغرزت في قميصك الأرجواني ؟ ...
زمن طويل مرّ وأنا أتلمّس ذلك القميص بمحبة خاصة جدّاً كلّما لبسته
أسبوعان وتقترب حنان مني بعد انتهاء الدوام لتقول بخجل محبّب : آنسة إذا سمحت إنّ أهلي يودون اللقاء بك وأعقبت والدي قال بأنه يعرفك...
من هو والدك وما اسمه ؟
اسمه ...
لكني لا أعرف أحداً بهذا الاسم ومع هذا أنا راغبة في التعرّ ف إليهم
وكانت الزيارة ، الزيارة التي أعادتني تسع سنوات إلى الوراء
هناك وفِي بلدتي حيث أُكرهت على إدارة ثانوية البنات
أقول أُكرهت ذلك لأني أعشق التدريس ولا أرى ذاتي محقّقة إِلَّا فيه
ولكن أُلزمت بالإدارة كون المديرات قبلي كنّ غريبات وأنا ابنة البلدة وقد عدت إليها بعد انتهاء خدمتي في ادلب
وفِي اليوم الأول لي في عملي جمعت الموجهات والمدرسين والمدرسات لأرسم معهم الخطوط الكبرى والمبادئ الأساسية في التعامل مع الطالبات
وكانت توصيتي التي أصررت عليها هي عدم السماح بشتم الطالبات وإهانتهن وإذلالهن مهما كانت الأسباب..
فإذا ما ضقتم ذرعاً أمام مخالفة طالبة لأمر ما أرسلوها إليَّ
وتمسّكت بهذا القرار بإلحاح لا محيد عنه
وذات يوم جاءتني إحدى المدرّسات والغضب يكاد يمزّقها
...آنسة ماري أنا لم أقل لها أيّة كلمة تركت الصفّ وجئت إليك .. وهل من المعقول أن تقول لي طالبة في الصفّ السابع : ألا تعلمين يا حضرة الآنسة بأني أستطيع نقلك من هذه المدرسة .. ألا تعرفين ابنة من أنا؟
كان هذا جواب الطالبة عندما وبّختها المدرّسة لتقصيرها في واجبها
هدئي من روعك يا آنسة ..... واتركي الأمر لي
وطلبت من الموجهة إحضار الطالبة ومن المدرّسة العودة إلى صفها
وها هي الطالبة واقفة قرب باب غرفة الإدارة
أتهدّدين المدرّسة يا ....
لا جواب ..
ومن هو والدك ؟ ومن هي أمّك ؟؟
واختنق صوتها وهي تلفظ الاسمين
وبكل هدوء قلت لها لقد أخطأت خطأً كبيراً
وسنعقد مجلس انضباط لنرى ما هي العقوبة التي تستحقينها
وقبل انتهاء الدوام انعقد مجلسنا وكان القرا ر بالإجماع فصل الطالبة ثلاثة أيام .. الثلاثاء والأربعاء والخميس
وأُذيع القرار في الباحة العامة
كنت أواظب على حضوري في الدوامين الصباحي والمسائي
ومع بداية الدوام المسائي همست الموجّهة في أذني لتخبرني بوجود الطالبة في المدرسة
وكعادتي اليوميّة وقفت عند أسفل الدرج المؤدي إلى الصفوف أستعرض سير الطالبات
ولمّا باتت المسافة منعدمة بيني وبين الطالبة ... أومأت لها برأسي كي تتنحّى جانباً
وحين انتهت مهمتي التفت إليها : كيف تحضرين هنا وأنت مفصولة ؟ ومسرعة قالت إنّ مدير التربية سمح لي بالدوام
مباشرة ودون اهتمام مني بما قالته الطالبة سألت الموجّهة : أين يقع بيتها ؟  .. إنّه هنا في الحيّ
إذن اصحبيها إلى البيت
 دقائق وإذا بشاب طويل القامة يقف بتحدّ عند باب غرفة الإدارة ليبادر بالقول : أعطني ورقة من يدك تُثبت  أنَّك طردت أختي من المدرسة
قلت: أنا لم أطرد أختك فحسب بل أطردك أنت أيضاً
ومن سمح لك بالدخول ؟؟؟
خرج مزمجراً غاضباً وهو يردِّد كلمات تهديدٍ ووعيد
وهنا لا بدّ لي من استذكار حادثة مخزية كان هذا الشاب ( المصون) بطلها الرئيس
كانت قد عُيّنت في مدرستنا مدرّسة للعلوم ليست من بنات بلدتنا  وربطتني بها صداقة قويّة، ولمّا لم يكتمل نصابها عندنا ؛ كُلّفت بإتمامه في ثانوية للبنين
وكان يوماً قاسياً عندما دخلت الصفّ هناك ليطقطق تحت أقدامها ( الفتيش) وهي تتجه نحو طاولتها وسط صخب الطلاب وضحكاتهم المجلجلة ، وارتمت على الكرسي مرتجفة ودفتر التوقيع مفتوح أمامها
وتجمّدت عيناها إذ وقع نظرها على كلمات بذيئة احتلّت المربّع المخصّص لكتابة عنوان الدر س وتوقيع المدرّس
تركت الصفّ مسرعة ، أبلغت الإدارة وغزّت السير  إلى مدرستنا
دخلت إليَّ باكية مذهولة لا تقوى على تصديق ما جرى
لا يمكنني أن أنسى مظهرها وهي تروي ما حدث كلّ ملامح وجهها تستنكر كلّ عضلة فيه ترتجف كلُ ما فيها يبكي بحرقة جليّة
ما كان مني بعد أن هدّأتها إِلَّا أن اتصلت بمدير التربية وقدّمت اقتراحي بإتمام نصاب المدرّسة بمادة الفيزياء
وكان النقص ثلاث حصص
وكانت الموافقة التي أراحتها قليلاً
( هنا اتُهمت من بعض المسؤولين بمناصرتي للأخوان المسلمين لأنّ المدرّسة كانت محجّبة)
وأمّا الشاب ( المصون) الذي توصّل تحقيق إدارة ثانوية البنين إلى أنّه كان المخطّط والمنفّذ لما وقع ، لم يلحقه أيّ عقاب لأنه ابن فلان
وأدع هذا الاستذكار جانباً لأعود لمتابعة الأحداث في مدرستي
ففي صباح يوم الأربعاء وبينما كنت غارقة في تعديل البرنامج المدرسيّ رنّ ذلك المربّع الأسود الذي يعلوه قرص مستدير ثبتت عليه الأرقام تحت عيون مثقوبة تُدار بالإصبع كي يعمل
وما إن رفعت السمّاعة حتى وصلني صوت مدير التربية عالياً مستنكراً
أنت فصلت الطالبة... من المدرسة والطالبة ستداوم اليوم
- يا أستاذ مم ....
من فصل الطالبة هو مجلس الانضباط
- وأنتِ رئيسة المجلس
- بالتأكيد
- بلا مجلس بلا بطيخ
انا مدير التربية وأقول لك ستداوم
وأنا مديرة الثانوية وأقول لك لن تداوم
وأعدت السمّاعة إلى مكانها
تسع سنوات مرّت على هذا الحوار السريع الغريب غير المألوف بتاتاً
لم أكن لأتخيّل بأنّ شاهداً سيكون جالساً إلى جانب مدير التربية عندما ستدخل مكتبه سيّدة جميلة أنيقة يصحبها مسؤول رفيع المستوى ليلزم مدير التربية بإصدار أمر لمدير ة الثانوية ( حضرتنا)
بوجوب دوام الطالبة
وقد امتثل مدير التربية للأمر وقال ما قال وقلت ما قلت
ولم يكن ذلك الشاهد الذي أعاد على مسامعي ذلك الحوار المقتضب سوى والد الطالبة حنان
ما إن التقينا بهاتيك الزيارة حتى بادرني بقوله أنا أعرف اسمك وروى لي ما شهده بالتفصيل وكيف أوهم مدير التربية بأنّ الأمر سيتم كما يشاء
وما أكمله ذلك الوالد المحترم بحضور زوجته الفاضلة وابنته الغالية وزوجي رحمه الله، جعلني أقف عاجزة عن فهم وإدراك سير الأمور التربوية بهذه الطرق الملتوية المتعثّرة.

 

شارك برأيك .. لتكتمل الصورة


استطلاعات الرأي

يجب ان تختار خيار قبل ارسال التصويت
هل تعتقد أن الوقت قد حان لبدء تطبيق الدفع الإلكتروني في سوريا؟
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني
النتائج
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني

الأكثر مشاهدة هذا الشهر