من مذكرات مدرسة (2) ... إنهم أبناؤنا

من مذكرات مدرسة (2) ... إنهم أبناؤنا

ماري عربش

أيلول يكاد ينتهي، ومحمد في مقعده الأخير  قرب نافذة مستطيلة الشكل ترتفع عن مستوى نظره، وبيده قلم رصاص يطوف فوق الورقة من الأعلى إلى الأسفل، ومن اليمين إلى اليسار، ويرفع رأسه بين الفينة والأخرى لينظر إلى السبورة، وهي  جزء من الجدار الأمامي  لقاعة اتسعت  لخمسين شاباً.

(إِنَّهُم لمامة مدارس المنطقة) هكذا وفي اجتماع خاص بمدرّسي الصفّ الثالث الثانوي الفرع الأدبي، عرّفهم مدير المدرسة.

بهدوء توجّهت إلى آخر الصفّ والكل مهتمّ بنقل قاعدة نحويّة كنت قد ثبتها على هاتيك السبورة الخضراء إلى دفاترهم، وقبل أن أصل إلى ذلك المقعد الخاص بمحمد ورفيقه كان قد وضع الورقة داخله، وقفت قربه وبصوتي المنخفض المعهود لدى الطلاب قلت: هل تسمح لي برؤية الورقة التي كانت أمامك؟ لم يحرّك محمد ساكناً، رجاءاً أريد أن أرى ماذا كنت تكتب!

لكنّ خالداً رفيقه في المقعد أسرع ليقول: هو يرسم، قلت حقاً؟ هذا ما يثير حماسي أكثر لرؤية الورقة لأَنِّي أحب الرسم كثيراً.

هيّا يامحمد أرني ماذا ترسم، وبوجل سحب ورقته ووضعها فوق المقعد، يا إلهي ماذا أرى  إنّه مدرّس الفلسفة يكاد ينطق، إنّها نظّارته السوداء السميكة التي تشعرك دائماً بأنها على وشك الوقوع، وضعت يدي على كتفه وبكلّ صدق ومحبة قلت له: فنان أنت يا محمد  رائع  دعني أتحدَّث إليك بعد انتهاء الحصة.

لا أدري كيف تفيض في قلبي مشاعر الأمومة أمام الطلاب والطالبات. "محمد ممّا لا شكّ فيه على الإطلاق .. أنت فنّان .. هل تفكّر في مستقبل حياتك؟؟"

لا أدري لماذا شعرت وكأنّه لم يخطر بباله هذا السؤال أبداً.. وظلّ صامتاً.. محمد أنت فنّان فلماذا لا تخطّط للدراسة في كليّة الفنون؟؟

"أنا .. أنا يا آنسة أدخل الجام...معة؟" وراح يتلفّت وكأنّه نطق بكلمة محرّمة وسمعت طقطقة في حنجرته.

مرّة أخرى وضعت يدي على كتفه وقلت انظر إليَّ يا محمد.. لم لا ؟؟؟

أنا أهلي يا آنسة ......وصمت ورأيت دمعة محبوسة في عينيه
وسرعان ما ارتسمت أمامي صورة بيت متواضع يغص بالأولاد ويعاني من الفقر والحاجة

محمد أنت ستدخل الجامعة وسوف تتخرّج من كليّة الفنون
شعاع من الشمس التمع في عينيه الغائمتين.

"أنا معك يا محمد."

أيلول يكاد ينتهي وأنت لم تبدأ الدراسة بعد.. لابدّ من حصولك على الشهادة الثانوية كي تدخل الجامعة، عدني يا محمد بأنك ستدرس وأنا سأعود معك إلى ما فاتك من الدروس، لا تخف وسوف تصل، وبلمح البصر كان محمد خارج الصف تاركاً في نفسي ذلك الشُعَاع الذي رأيته في عينيه، لم يعد قلم الرصاص إلى يد محمد، وكل ما سنحت الفرصة كنّا نلتقي في غرفة التوجيه لشرح قاعدة أو قصيدة مستعصية أو ...أو، وتوالت الأعوام.

كنت في ذلك (السنفور) الباص الذي يقلّ الركاب من دمشق العاصمة إلى مدينة حرستا في تلك الأيام قاصدةً بيتي وقد هبط المساء وأظلمت الدنيا،
وعندما مددت يدي بالليرات الخمس لأعطيها (للمعاون) الذي يجمع الغلة أتاني صوت من الخلف "واصل" لم أكن لألتفت إلى الوراء مستوضحة مصدر الصوت، تابع السنفور سيره متوقفاً في تلك المحطات التي حفظت أسماءها وتسلسل مواقعها.
وأخيراً محطتي (الكوع)هبطت من تلك الحافلة المخلعة خطوة خطوتان وإذا بصوت مفعم بالرجولة يناديني: آنسة ماري ... التفت لأرى رجلاً طويل القامة يمسك بيده ولدا صغيراً يبدو في الرابعة من عمره
بادرني بالسؤال بعد تحيّة كانت في غاية التهذيب: ألم تتذكريني يا آنسة؟؟
وكما في كلّ مرّة أتعرض لمثل هذا السؤال من طلبة يفصلني زمن طويل عن تدريسهم أعتصر ذاكرتي دون جدوى.

"أنا يا آنسة لا أنسى فضلك مدى عمري، أنا ذلك الطالب الذي ضبطته ذات يوم يرسم في حصتك"

هذه المرّة أنا التي نفرت الدمعة من عيني ولم أستطع حبسها،
أنا التي تقطّعت كلماتي وأنا أسأله: كيف حالك محمد وأين وصلت؟

تخرّجت من كليّة الفنون وأعمل وهذا ابني

فيا أَيُّهَا المدير المحترم: هؤلاء ليسوا "لمامة" هؤلاء أبناؤنا.

كنت أسمعني أردّد هذه العبارة في طريقي الى بيتي.

شارك برأيك .. لتكتمل الصورة


استطلاعات الرأي

يجب ان تختار خيار قبل ارسال التصويت
هل تعتقد أن الوقت قد حان لبدء تطبيق الدفع الإلكتروني في سوريا؟
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني
النتائج
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني

الأكثر مشاهدة هذا الشهر