من مذكرات مدرِّسة

من مذكرات مدرِّسة

ماري عربش

ونحن نعيش الحياة بكلّ  صخبها وضجيجها وتدفّقات فرحها وحزنها وجمالها وقبحها ... لا يخطر ببالنا أنّ هذه اليوميّات والتفاصيل سيطويها الزمن وسوف تصبح ذكريات ساكنة
وها أنا وقد نأت بي الأيام والسنوات وابتعدت بي المسافات والخارطات عن مركز عشقي لحياتي التي عشتها هناك في وطني، أجدني وأنا أعيش الغربة بكل معانيها غربة الروح والنفس والأرض، أجدني مبحرة في عمق هاتيك الأيام التي باتت ذكريات


الانطلاقة البكر
بيديه الكبيرتين احتضن كتفيّ الصغيرتين وشعرت بأنفاسه الدافئة تغمر وجهي وبكامل الجديّة والحزم قال كلماته التي ما زال صداها يتردّد في مسامعي بعد مرور نصف قرن عليها
قال: ثقتي بك لا حدود لها   أعرفك جادة نشيطة متفائلة
وابتعد قليلاً لأصعد (البولمان) في محطة البرامكة في دمشق الذي سيحملني إلى حلب ومنها إلى إدلب حيث تمّ تعييني هناك كمدرّسة للّغة العربيّة
ما زلت أذكر وبقوة كيف نفرت دمعة من عيني لم أعرف لها تسمية، أتكون دمعة الفرح بالثقة المطلقة التي منحني اياها والدي الذي كان يمثّل لي قدوة أعتز وأفخر بها، أم أنها دمعة الفرح بالانطلاقة الأولى في حياتي للعمل الذي أعشق؟؟ أم أنها فرحة الشعور بالاستقلالية وتحمّل المسؤولية؟؟ أم كل ذلك مجتمعاً؟؟
كلّ ما عرفته بأنها لم تكن دمعة حزن أبداً
وانطلق (البولمان) يطوي الطريق المعهودة لديّ حتى مدينة حمص
هذه المسافة أمضيتها وأنا أعيد وأكرّر قراءة كتاب التعيين من وزارة التربية
وأتفحص شهادة إجازتي من جامعة دمشق وشهادة دبلوم التربية وعلم النفس
حتى بت اذا أغمضت عينيّ أرى كلّ الكلمات في هاتين الشهادتين مرصوفة بدقة ووضوح
وتأهّبت للاستمتاع بتلك المساحات الشاسعة التي أراها للمرّة الأولى
يا الهي إنّه القطن الحقيقي وقد انبثق من نبتاته كتلاً بيضاء صغيرة والتفت مندفعة نحو الركاب لأتلمّس أمارات الإعجاب على وجوههم
أبداً لا شيء ممّا ابتغيه
تعابير مختلفة قرأت فيها كلّ ما هو ممكن إِلَّا الإعجاب
هذا رأسه مشغول بحسابات تجارة في سوق حلب
وذاك غارق في نوم بعد تعب وإنهاك
وآخر ربّما يخطط لمتعة سيعيش ساعاتها هناك
ولكن ما يشغلني أنا رؤية هذه الأرض الغنية المعطاءة وهمست لروحي
كم أحبّك يا وطني
وكانت سعادتي لاتوصف عندما وقفت وجهاً لوجه أمام نواعير حماة
لقد قفزت من اللوحات التي كنت أرسلها بطاقات معايدة لتتجسّد حيّة أمام ناظريّ وبأمّ عيني أرى شلالات المياه المتدفقة منها
وتنبّهت لصوت السائق يقول هيا اصعدوا
روعة الاستكشافات لم تتوقّف
إنّها امتدادات سهول الجبس كرات خضراء فوق تربة حمراء لا نهاية لحدودها إلّا هناك عند تلامسها مع الآفاق
أتابع النظر في عينيّ وقلبي يخفق في رحلته الخاصة في طريق مغايرة لقد تجاوز كلّ الطرقات ووصل سريعاً إلى مدرسة شامخة في تلك المدينة بوابتها سوداء كبيرة كبيرة تمركزت فوقها لافتة عريضة عريضة نقشت عليها تسمية ستظلّ مصدر فرح له
(ثانوية الخنساء)
الحافلة تتابع رحلتها وأنا مع قلبي أسرع الخطا نحو الصفوف أتعرّف إلى الطالبات وأستمتع بشرح القصائد وأحملهنّ من عصر أدبيّ إلى آخر
أكاد أسمع نبض قلبي وأنا جالسة في ذلك المقعد وأضبط نفسي وأنا أبتسم وأصابع قدميّ تتراقص داخل الحذاء وأنامل يديّ تتشابك في عناق طويل حميميّ دافئ
كلّ هذه المشاعر ولم أصل بعدُ إلى محطة البولمان في حلب.
يتبع...

شارك برأيك .. لتكتمل الصورة


استطلاعات الرأي

يجب ان تختار خيار قبل ارسال التصويت
هل تعتقد أن الوقت قد حان لبدء تطبيق الدفع الإلكتروني في سوريا؟
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني
النتائج
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني

الأكثر مشاهدة هذا الشهر